بعض الروايات لا تُقرأ، بل تُعاش.
هكذا بدت لي رواية دموع الرمل لشتيوي الغيثي: رواية لا تروي فحسب، بل تُنِضج الحزن في قارئها على نارٍ هادئة، تجعله يصرخ كمن يسكب قلبه دفعة واحدة ثم يبتعد خائفا من أن يلتفت.
تقودك الرواية إلى الصحراء لا لتريك اتساع الأفق، بل لتريك ضيق القلب حين يحمل أكثر مما يحتمل.
لستُ ممن تفتنهم الروايات التاريخية، ولا من يطارد أخبار الحروب؛ فهي في نظري عبثٌ مستمر، يكبر فيه الإنسان عمرا، ويتكئ على غيره بالسلاح.
تلوح مرارة عبثية الحروب بين السطور حين يتساءل ضاري: «كيف سأقتل رجلا لا أعرفه؟» كأن الرواية تهمس لنا بأن الحروب في أغلبها هي سوء فهم بين غرباء لم يلتقوا إلا في ساحة موت.
كنت أظنني محصّنة من سحر هذه النوعية من الحكايات، لكن دموع الرمل قادتني من يدي، لا لأسمع صدى المعارك، بل لأنصت إلى بكاء أهل الصحراء تحت رملها، إلى شهقات الذكرى، إلى صوت الألم حين يئن.
تبدأ الرواية بجملة «الحياة ذاكرة» وتبدأ رحلتنا مع الرواية بهذه الذاكرة، التي قد تكذب، وقد تَخدَع، وقد تُخدَع.
شعرتُ أن الرواية لا تنتمي للتاريخ كما تُصنف، بل تنتمي للذاكرة، أو التاريخ الذي يتحول إلى ذاكرة، والذاكرة لا يمكن التعويل عليها كثيرا؛ فهي لا تُدوّن بالحبر، ولا تُحفظ بالكلمات، بل تُغلّف بالمشاعر والتحيزات التي تغير كل ما فيها.
تبدأ الرواية بتذكر حكايات الجدة نويّر التي توفيت منذ أربعين عاما، ونظن بذلك أن نوير هي الشخصية الرئيسة للرواية، لكننا سرعان ما ندرك أن نوير شخصية رئيسة نعم، لكنها ليست الشخصية المحورية، بل كان الألم، الألم الذي يحرك كل الأحداث، وكانت الصحراء هي الشخصية الرئيسة الأخرى، فهي مصدر كل ما يصيب الإنسان من ألم ومعاناة وحزن، هي رمز القسوة والصعوبة.
كل هذا الألم في الرواية جعلني أتساءل، كم أعطاها الكاتب من نفسه؟ وكم أعطته من بكاء؟
أكاد أقول إن الرواية ليست من صنع مؤلفها، ليست خلاصة تجربته وفكره وشخصيته كما يكون الأدب عادة، بل هي من صنع حزنه. كأن الحزن هو من تولّى الكتابة، واكتفى الكاتب بأن يسمح له بأن يعبر من خلاله إلى الورق.
نوير بدوية متمردة لا تعرف إلا الصحراء، تملك قوانينها الخاصة، وقوتها الخاصة، وضعفها الخاص، الذي تحاول أن تخفيه بكل ما أوتيت من قوة، لكنها تبقى ضعيفة: ضعف الأنثى، وضعف الفقد، وضعف الخذلان، تخذلها الصحراء، ويخذلها العرف، ويكسرها القدر بالفقد المتتالي. نوير هي الشخصية التي يمكن أن تجد نفسك فيها أيا كنت، الضعيفة القوية، الحائرة الحاسمة، الشجاعة التي تخاف، الصلبة التي تنكسر، البطلة التي تنهزم؛ ببساطة لأنها بشر، تشبهنا جميعا، تقوى أحيانا وتضعف أحيانا، تتردد أحيانا وتجزم أحيانا، تواجه أحيانا وتستسلم أحيانا.
كنت أقرأ الرواية وأشعر بأن شيئا ما في هذه الرواية يعنيني، شيء لا أعرف اسمه، لكنه يؤثر بي عميقا. هناك أجزاء في الرواية لم أجد نفسي فيها، لا من حيث الهوية، ولا من حيث الأحداث، لكنني وجدت نفسي في وجعها، وجع الرواية لم يستأذن، طرق القلب ودخل.
هناك مشهد توقفت عنده طويلا، مشهد صوّر سرقة إبل نويّر وأبيها حينما كانا في الصحراء وحدهما، أغار عليهما ثلاثة أشخاص وسرقوا إبلهما، لكن أحدهم توقف بعد ذلك ليعيد لهما إحدى الإبل بعد أن رأى ضعف حالهما، تخيّل أن يتصدق سارق على من سرقه، ويعيد له جزءا من ماله!! تخيل أن يكون إنسان موضع شفقة ممن أراد أن يسرقه!!
آلمني هذا المشهد كثيرا، وشعرت أنه قمة الهوان الذي يمكن أن يصل له الإنسان، وحينها تذكرت تلك العبارة التي قيلت لعبد الملك بن مروان: «عجّل بك الشيب» فرد قائلا: «كيف لا؟ وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة». شاب رأسه لأنه يعرض عقله، فكيف بمن يعرض حزنه؟ ألا يشيب قلبه؟
لم يكن جمال الرواية (برأيي) في سردية الأحداث، ولا عمق الحوارات، بل في ذلك التوازن النادر بين القوة والضعف في الشخصيات: نوير قوية حد الألم، ضعيفة حد القوة. وضاري يحمل تردده كسيف، يشهره أمام العالم ليحاول أن يهزمه، لكنه يرتد إليه ليهزمه هو، كأنه يقاتل ليثبت وجوده، أو يقاتل كيلا يُقاتَل.
كان جمال الرواية أيضا في التوازن العجيب بين الألم والأمل، بين أن تنغمس في الألم أكثر، وأنت تتلمس شعورا خفيا يتسلل إلى داخلك بأن كل ألم سيلحقه أمل بالتأكيد، وبأن هناك ضوءا في آخر النفق كما يقال، وبأن أشد اللحظات ظلمة هي اللحظة التي تسبق بزوغ الفجر، حسنا، ذلك لا يحدث في الرواية، بل يتعاظم الألم وينحسر الأمل تدريجيا حتى يختفي.
كان جمال الرواية كذلك في التوازن بين الخلق الرفيع والثمن الباهظ الذي يُدفع مقابله، في مقابل كل شهامة هناك ألم، في مقابل كل مروءة هناك ألم، في مقابل كل صبر هناك ألم، لا تقول الرواية ذلك مباشرة، بل يتجرعه القارئ على مهل وهو يقرأ، تهمس الرواية في كل مشهد: (كل خسارة هي ثمن لخلق رفيع).
الرواية هادئة، لكنها مؤلمة، كأنها تمهد لك بأن تتجرع الألم بمهل، حتى تأخذ جرعته كاملة.
السرد هادئ، لكنه مؤلم، كأنه يمهد لك بأن تعيش الأنين دون صراخ؛ لأنه لا فائدة منه.
كل شيء في الرواية هادئ، لا شيء فيها مستعجل، لا الأحداث ولا الحوارات ولا حتى الموت، وحده الألم الذي يستعجل ويتسرب إليك من بدايتها.
دموع الرمل ليست مجرد رواية تاريخية، بل ذاكرة مشوهة تكشف لك هشاشة الإنسان مقابل قسوة الحياة، هشاشة الإنسان التي لا يمكن أن يخفيها رغم كل محاولاته لأن يبدو قويا.
العنوان «دموع الرمل» يخدعك حين يوهمك بأن القصة هي قصة الصحراء والحرب، لكنها ليست كذلك، بل هي قصة الإنسان الذي عاش في الصحراء وعاش الحرب، والذي نتحدر نحن منه لنرثه حتى في ألمه.
** **
- د. عبير علي الجربوع