التقيته على كورنيش الخبر الأنيق، قبيل غروب الشمس، والسماء تصبغ الأفق بلون ذهبي ساحر، فيما كانت أمواج البحر الهادئ تعانق الصخور وتهمس بألحان عذبة. كان لقاءً عابرًا مع رجل لا أعرفه، ألحيت عليه أن يشرب معي فنجانا من القهوة السعودية الفاخرة صنعتها ابنتي في شقتها بتوجيهات سامية من زوجتي بدأنا بأحاديث شيقة وما لبث حتى تحول إلى حديث طويل عن الحياة، عن المستقبل، وعن همومه التي أثقلت صدره.
تحدث بصدق عن قلقه على أسرته، وعن مخاوفه من الغد، ورغم أن كل ما رواه عن عمله واستقراره المالي والأسري كان يشير إلى حياة مرتبة مطمئنة لا تستحق ذلك القلق. بدا لي وكأنه محاصر بهموم لا مبرر لها، أو ربما بأفكار سوداء لا تنفك تهاجمه كلما استشعر نعمة الاستقرار.
استمعت إليه منصتا ومتفاعلا لأستدر ما يفكر فيه، فيما كان البحر خلفنا يواصل معزوفته الهادئة وكأنه يشاركنا الجلسة. تركته يفرغ ما في صدره حتى انتهى، ثم التفتُّ إليه وقلت بهدوء:
«اسمح لي يا صاحبي أن أقول لك شيئًا… وضعك الحالي يتمناه أكثر من ملياري إنسان على هذه الأرض». رفع حاجبيه متأملا
ساد بيننا صمت عميق، لا يقطعه سوى صوت الموج وتغريد طائر النورس يحلق فوقنا، وأطرق الرجل برأسه قبل أن ترتسم على وجهه ابتسامة خجولة، كأنما استيقظ قلبه من غفلته أو استعاد وعيه فجأة عباراتك كأنها قرص من أقراص التهدئة، بعد ذلك انتقلنا إلى أحاديث جانبية خفيفة، لكن ظلت تلك اللحظة عالقة في ذهني، تعيد إليّ سؤالًا لا يبرح فكري:
لماذا لا نبصر النعمة إلا حين نقارنها بحرمان الآخرين؟ ولماذا نختار أن نحيا في هموم الغد بدلًا من الامتنان لنِعَم اليوم؟
إن كثيرًا مما نحمله في صدورنا ليس همًّا حقيقيًا، بل وهم وقلق صنعناه وربما اشتريناه من تجار الوهم؛ حين ضيقنا أفق النظرة الشاملة، وأغفلنا ما بين أيدينا من خير وصحة وأمان تتحدث عنه أمم الأرض
ليتنا نتوقف لحظة… لنبصر نعمنا كما يراها من يتمنى أقل القليل منها.
بعدها تأملت البشر في المناطق المنكوبة ورأيت في الناس وجوهًا يعلوها البؤس، وقلوبًا أثقلها الهم، غير أنّ الابتسامة لم تغادرها! كأنهم اختاروا الفرح رغم كل ما في أرواحهم من جراح، وقرروا أن يُضفوا على الدنيا طابعًا من البهجة، ولو كان في قلوبهم عكس ذلك.
وأيقنت حينها أن الإنسان قد يُخلق بطبعٍ قلق، لكنه ليس أسيرًا له، بل يستطيع أن يتمرد عليه ويكون سعيدا إذا عظّم في قلبه ذاته، وأخذ بأسباب الطمأنينة، فتتبدّل نظرته للحياة، ويشرق وجهه بنور الرضا.
بعدها غادرني صاحبي مودعا وجلست بعده أتأمل البشر كم هو جميل أن نرى من بين ركام البؤس قلوبًا تتبسم، لا لأنها بلا ألم، بل لأنها اختارت أن تكون منارات للأمل، حينها تذكرت مقولة لديل كارنيجي (Dale Carnegie) – مؤلف كتاب دع القلق وابدأ الحياة حيث قال: (ذا أردت أن تتجنب القلق، عش في حدود يومك، ولا تحاول اجترار الماضي أو استباق المستقبل) فلا تعكر جمال اليوم بهموم الغد!
** **
- صالح الربيعان