في عالم يشهد تغيرات متسارعة في كل مناحي الحياة، يبقى التعليم العمود الفقري لإعداد أجيال قادرة على مواجهة التحديات وصناعة المستقبل، لكن كيف يمكننا بناء نظام تعليمي يحقق العدالة، يشجع الإبداع، ويشرك المجتمع بأكمله؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي يسعى كتاب الطريق الرابع: المستقبل الملهم للتغيير التعليمي The Fourth Way: The Inspiring Future for Educational Change للمؤلفين Andy Hargreaves ، Dennis Shirley إلى الإجابة عنه. هذا الكتاب، الذي صدر عام 2009 عن دار كوروين للنشر، ليس مجرد تحليل نظري، بل خارطة طريق عملية تهدف إلى إصلاح التعليم بطريقة مستدامة، وملهمة. يستهدف الكتاب المعلمين، الإداريين، صناع السياسات، بل وحتى الأهالي والطلاب، لإعادة التفكير في كيفية تحسين التعليم ليكون أكثر شمولية وإنسانية.
نظرة تاريخية: ثلاث طرق لإصلاح التعليم:
للوصول إلى فهم الطريق الرابع، يبدأ الكتاب باستعراض ثلاث مراحل رئيسية أو «طرق» لإصلاح التعليم منذ منتصف القرن العشرين.
يقدم المؤلفان تحليلًا عميقًا لهذه المراحل، موضحين نقاط القوة والتحديات التي واجهت كل مرحلة وفقاً لما يلي:
1. الطريق الأول (1945-1975):
في هذه الفترة، كانت الحكومات تدعم التعليم بقوة، حيث كان يُنظر إليه كاستثمار في بناء المجتمعات بعد الحرب العالمية الثانية. تمتع المعلمون بحرية كبيرة في اختيار أساليب التدريس، مما سمح لهم بتجربة أفكار جديدة ومبتكرة، على سبيل المثال، كان بإمكان المعلم تصميم دروس تتناسب مع احتياجات طلابه دون قيود صارمة، لكن هذه الحرية جاءت مع تحديات، حيث افتقرت الأنظمة التعليمية إلى معايير موحدة، مما أدى إلى تفاوت كبير في جودة التعليم بين المدارس، خاصة بين المناطق الغنية والفقيرة.
2. الطريق الثاني (الثمانينيات-1995):
مع صعود الفكر الليبرالي ومبادئ السوق الحرة، تغيرت نظرة العالم إلى التعليم، أصبح التركيز على المنافسة بين المدارس، الاختبارات القياسية، ومعايير المساءلة. كانت الفكرة هي قياس أداء الطلاب والمعلمين من خلال نتائج الامتحانات، مما يفترض أنه سيحسن جودة التعليم، لكن هذا النهج قلل من دور المعلمين كمبدعين، وحولهم إلى مجرد منفذين لمناهج صارمة، أدى ذلك إلى إحباط المعلمين، وزيادة الضغط على الطلاب، وتجاهل الجوانب العاطفية والإبداعية للتعليم، كما ساهم هذا النهج في توسيع الفجوة بين الطلاب من خلفيات اجتماعية واقتصادية مختلفة.
3. الطريق الثالث (1995-الوقت الحاضر):
حاول هذا النهج إيجاد توازن بين المساءلة والحرية المهنية. ظهرت فكرة «مجتمعات التعلم المهنية، حيث يتعاون المعلمون لتحسين ممارساتهم التعليمية، واستُخدمت البيانات لتحديد نقاط القوة والضعف في الأداء، لكن هذا النهج واجه تحديات، حيث تحول في كثير من الأحيان إلى أداة بيروقراطية.
تدخلت مؤسسات التعليم الحكومية بقوانين وتعليمات صارمة، مما جعل التعليم يفقد مرونته وروحه الإبداعية بدلاً من تمكين المعلمين، أصبحوا تحت ضغط مستمر لتحقيق أهداف محددة مسبقًا.
الطريق الرابع: رؤية لتعليم أفضل:
يقترح المؤلفان في كتابهما الطريق الرابع: المستقبل الملهم للتغيير التعليمي نهجًا جديدًا يتجاوز عيوب المراحل السابقة، هذا النهج يعتمد على رؤية شاملة تجمع بين الإبداع، العدالة، والاستدامة، ويرتكز على ثلاثة عناصر أساسية: أهداف ملهمة، احترافية المعلمين، وتماسك النظام.
دعونا نستعرض هذه العناصر بالتفصيل:
• أهداف ملهمة: ستة أعمدة لتغيير التعليم:
يرى المؤلفان أن التعليم يجب أن يتجاوز التركيز على الدرجات والاختبارات إلى بناء أهداف أكبر وأكثر إلهامًا.
يقترحان ستة أعمدة رئيسية تشكل أساس الطريق الرابع:
رؤية ملهمة وشاملة: التعليم ليس مجرد تحضير الطلاب للامتحانات، بل إعدادهم كمواطنين عالميين قادرين على التفكير النقدي، حل المشكلات، والمساهمة في المجتمع. على سبيل المثال، يجب أن يتعلم الطلاب كيفية التعامل مع قضايا مثل التغير المناخي أو التنوع الثقافي.
مشاركة المجتمع: المدارس ليست مجرد مبانٍ، بل مراكز مجتمعية. يجب إشراك الأهالي، المنظمات المحلية، وحتى الطلاب أنفسهم في تصميم ودعم العملية التعليمية. هذا يعزز الشعور بالانتماء ويجعل التعليم مشروعًا جماعيًا.
استثمار حقيقي: لا يمكن تحسين التعليم بدون موارد كافية.
يدعو المؤلفان إلى زيادة التمويل لتحسين البنية التحتية، تطوير التكنولوجيا في الفصول، وتوفير تدريب مستمر للمعلمين.
مسؤولية الشركات التعليمية: يشجع الكتاب الشركات على دعم التعليم بطرق أخلاقية، مثل توفير برامج تدريب عملي أو منح دراسية، بدلاً من تحويل التعليم إلى سلعة تجارية.
الطلاب كشركاء في التغيير: يجب أن يكون للطلاب صوت في كيفية تعلمهم، على سبيل المثال، يمكن للطلاب اقتراح أنشطة أو مشاريع تعكس اهتماماتهم، مما يجعلهم أكثر التزامًا.
تعليم واعٍ: يركز هذا العمود على تنمية المهارات العاطفية والاجتماعية، مثل التعاطف والعمل الجماعي، إلى جانب المهارات الأكاديمية، لضمان تكوين شخصيات متكاملة.
• احترافية المعلمين: العنصر الأساسي للنجاح:
يؤكد هارجريفز وشيرلي أن المعلمين هم قلب أي نظام تعليمي ناجح، لكنهم يحتاجون إلى دعم حقيقي لأداء دورهم بفعالية.
يقترح الكتاب ثلاثة مبادئ رئيسية:
معلمون ذوو كفاءة عالية: يجب اختيار المعلمين بعناية، وتزويدهم بتدريب مستمر يركز على أحدث الأساليب التعليمية.
في فنلندا، على سبيل المثال يُعتبر التعليم مهنة مرموقة تتطلب مؤهلات عالية، مما يجذب أفضل الكفاءات.
جمعيات مهنية قوية: النقابات والجمعيات التعليمية يجب أن تلعب دورًا في الدفاع عن حقوق المعلمين وتمكينهم كقادة للتغيير، بدلاً من أن تكون مجرد هيئات إدارية.
مجتمعات تعلم حيوية: يشجع الكتاب على إنشاء شبكات تعاون بين المعلمين داخل المدارس وخارجها، حيث يتبادلون الخبرات ويطورون أساليب تدريس مبتكرة.
• تماسك النظام: بناء تعليم مستدام:
بدلاً من الإصلاحات العشوائية أو قصيرة الأمد، يدعو الطريق الرابع إلى بناء نظام تعليمي متماسك ومرن يقاوم التغيرات السياسية المتقلبة يشمل ذلك:
القيادة المستدامة: دعم القادة التعليميين (مثل مديري المدارس) لتطوير رؤى طويلة الأمد، بدلاً من التركيز على تحقيق نتائج فورية.
الشبكات التعليمية: تشجيع التعاون بين المدارس والمناطق لتبادل الأفكار الناجحة على سبيل المثال، يمكن لمدرسة في منطقة ريفية أن تستفيد من تجربة مدرسة حضرية.
المسؤولية قبل المساءلة: بدلاً من معاقبة المدارس بناءً على نتائج الاختبارات، يجب التركيز على المسؤولية المشتركة بين المعلمين، الطلاب، والمجتمع.
التنوع والتمايز: تصميم مناهج وأساليب تدريس تأخذ في الاعتبار الاختلافات بين الطلاب، سواء كانت ثقافية، اجتماعية، أو أكاديمية.
• تجارب عالمية ملهمة:
لتوضيح فكرة الطريق الرابع، يستعرض الكتاب أمثلة من دول نجحت في تحسين أنظمتها التعليمية:
فنلندا: تُعتبر نموذجًا عالميًا بفضل تركيزها على احترام المعلمين، تقليل الاختبارات القياسية، وتشجيع التعلم الإبداعي. يحظى المعلمون في فنلندا بمكانة اجتماعية عالية، مما يعزز جودة التعليم.
أونتاريو، كندا: تمكنت هذه المقاطعة من تحسين الأداء التعليمي من خلال التعاون بين الحكومة، المعلمين، والمجتمع، مع التركيز على تطوير المهارات الشاملة للطلاب.
برامج مبتكرة: يذكر الكتاب تجارب مثل برامج التعلم القائم على المشاريع، التي تتيح للطلاب استكشاف مواضيع تهمهم، مما يعزز دافعيتهم للتعلم.
لماذا الطريق الرابع مهم؟
في عصر تهيمن فيه التكنولوجيا، يحتاج التعليم إلى إعادة تعريف دوره. كتاب الطريق الرابع ليس مجرد كتاب، بل دعوة لإعادة التفكير في التعليم كعملية إنسانية تهدف إلى تمكين الأفراد والمجتمعات.
يرفض الكتاب فكرة تحويل الطلاب إلى أرقام في جداول الاختبارات، ويدعو إلى نظام يحترم الفردية، يشجع الإبداع، ويبني مجتمعات متماسكة. إنه يخاطب الجميع: المعلم الذي يسعى لإلهام طلابه، الأهل الذين يريدون مستقبلًا أفضل لأبنائهم، والمسؤول الذي يبحث عن حلول مستدامة.
كيف يمكن تطبيق الطريق الرابع؟
لتحقيق هذه الرؤية، يقترح الكتاب خطوات عملية:
تمكين المعلمين: توفير بيئة عمل تدعم الإبداع والتطوير المهني.
إشراك الطلاب: إعطاء الطلاب دورًا في تصميم تجربتهم التعليمية.
تعزيز التعاون: بناء شراكات بين المدارس، الحكومات، والمجتمعات المحلية.
التعليم للجميع: ضمان وصول جميع الطلاب، بغض النظر عن خلفياتهم، إلى تعليم عالي الجودة.
ختاماً:
كتاب الطريق الرابع: المستقبل الملهم للتغيير التعليمي The Fourth Way: The Inspiring Future for Educational Change هو أكثر من مجرد دراسة أكاديمية؛ إنه دعوة للعمل. يحثنا على تخيل تعليم يعكس قيم الإنسان، والإبداع. إذا أردنا إعداد جيل قادر على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين – من التغير المناخي إلى التحولات التكنولوجية – فعلينا أن نتبنى رؤية تعليمية ترى في كل طالب إمكانية للتغيير، وفي كل معلم قائدًا للمستقبل.
** **
- د. خالد بن يحيى القحطاني