في فترة المساء الصيفي الممتد طويلاً من بعد الظهيرة حسب جغرافية بلاد الإنجليز، وفي المكان اللافت لمطعم الوجبات السريعة المعروف على ناصية جادة (ماركت هيل) الشهيرة في مدينة (كامبردج)، كنت أجلس بعد يوم طويل متناولاً لطعامي، ومسوفاً للتوبة – كعادتي – عن طعام مطاعم الوجبات السريعة!
كانت ردهة المطعم صاخبة ومزدحمة بطلاب وطالبات وسياح، يجمعهم أنهم ذوو وجوه شتى، وملامح متفرقة، وأسنان متباينة، وألسن مختلفة، لم يكن شيء فيها مألوفاً، وذلك في مثال حي لآية من آيات التنوع والاختلاف البشري. ومن الناحية اليسرى لردهة المطعم تسلل إلى مسمعي صوت عربي بلهجة سعودية، التفت متلهفاً ناحية الصوت، لأرى شاباً يجلس على طاولته وحيداً، يتناول طعامه ويشاهد جواله، حيث كان الصوت المميز منبعثاً من جهازه الجوال لمحتوى من ثقافتنا المحلية.
أحب دائمًا قضاء الوقت في (كامبردج) وضواحيها كلما زرت المملكة المتحدة، مدينة صغيرة يلفها الهدوء، وتزدان بصرحها العلمي العريق، ومكتبات ومتاحف وطبيعة لا تُمل، وساكنوها وقاصدوها هم ما بين طلاب علم وباحثين عن المعرفة، وكبار أعلام وعلماء، قوم لا يُمل معشرهم أو الحديث معهم والحوار.
أنهيت بعد برهة وجبة طعامي، وتجهزت للخروج من المكان لاستكمال بقية يومي، ولكن نظرت دون شعور إلى هذا الجالس أمامي مرة أخرى من بعيد، كان لا يزال جالساً منهمكاً لم يفرغ من طعامه ومما يشاهده بعد، فاستيقظت في داخلي رغبة غريبة جارفة لم أعثر لها على تفسير منطقي أن أتوجه إليه وأحادثه، لا أدري ما الذي جذبني نحوه، ودفعني إلى التحدث إليه؟ أهو شعور الألفة والانجذاب إلى الشبيه؟ أم رغبة في التحدث بالعربية مع أحد ما وسط هذا العدد الكبير من غريبي الوجوه واللغة؟ ترددت في التقدم إليه، وكنت أدركت هويته من غطاء هاتفه الذي كان يحمل ملصقات من ثقافتنا المحلية، ثم حسمت أمري – وأنا الخجول اجتماعيًا بطبعي – في التقدم إليه، ولعل دافعي الأقوى في ذلك كان الفرح برؤية أحد شبابنا في هذا الصرح العلمي العريق، وصلت إلى طاولته، ووقفت عليه، فلم يرفع عينيه أو ينظر، فقد كان منصرف الانتباه إلى ما كان يشاهده على جهاز جواله.
ألقيت عليه التحية بالإنجليزية، فنظر إليّ ورد التحية بأحسن منها، ثم سألته بالإنجليزية مرة أخرى هل تتحدث العربية؟ قال نعم، ثم سألته الثالثة أيضاً بذات اللغة: من أين أنت؟ فأجاب من المملكة العربية السعودية، حينها غيرت لغتي ولهجتي إلى العربية السعودية، وحييته بها لأفاجئه، وأخبرته أني فعلت ذلك مع إدراكي لهويته؛ لأمازحه وألاطفه فقط، فتبسم وجهه ضاحكاً، ولان محياه، وحياني ورحب بي.
سألته عما يفعل، وقد رأيت مجموعة من الأوراق والكتب على طاولة طعامه، فأخبرني أنه طالب هنا، فحييته وشددت من أزره، وأخبرته أننا نفخر بمثله في مثل هذا الصرح العلمي العريق، كما تحدثت معه عن تجربة اللغة ودراستها، ثم ودعته ودعوت له بالتوفيق، وأنا أشعر أني أتحدث إلى شاب من طلابي في الجامعة، أفرح بهم عندما أراهم طموحين ناجحين.
لم يتجاوز اللقاء والحوار دقائق معدودات أحسبها ثلاثاً، تزيد في الثواني أو تنقص قليلاً، ودعته ولم أعلم أنه لقاء وحيد يتيم، بل لا أعلم إلى الآن كيف ساقتني السياقات إلى ذلك؟ وما الذي دفعني أن أذهب إلى طاولته تحديداً لأتحدث معه؟ أي شهية للحديث انتابتني مع غريب لم ألتق به من قبل؟ أهي ما أقنعت نفسي به تعليلات آنفة الذكر أعلاه؟ أم أن الأمر أبعد من ذلك وأعمق مما لا تدركه عقولنا من الماورائيات؟ يقين أن الإنسان لا يدرك ما خلف الستار وما يخبئه الغيب، سبحانك ربي خفيت ألطافك، وتعالت مشيئتك، جعلت لي معه لقاء وذكرى.
كنت قد نسيت تلك الدقائق العابرة واللقاء السريع، ومرت من ذاكرتي كغيرها، ولم أستيقظ على ذكراها إلا عندما رأيت الأخبار الحزينة، وقد كنت في (أدنبرة) حينها، فاستعدت اللقاء متعجباً من المفارقات والمعاني الخفية العميقة.
إنما ينسال هذا الحديث عفو الخاطر، إذ لم أستطع كتمانه حزناً وتعجباً معاً، فجاد به مداد القلم، فرحمك الله يا محمد، خرجت طلباً للعلم، وتحصيلاً لما ينفع، عندما التقيتك كانت أمارات التعب والإرهاق بادية على محياك الوديع، ولا عجب، فأنا أعرف مرحلة دراسة اللغة جيداً، وخاصة عندما تدرس في مظانها، وانغماساً لغوياً بين أهلها، فكلها قلق وتعب وإرهاق.
ومع هذا كله، لم يعلق بذهني صورة أكثر إيلاماً، ولم يكسر قلبي كسراً مضاعفاً إلا ما أفاد به شهود العيان في وسائل الإعلام، من أنهم رأوه يجري مسرعاً يطلب المساعدة بعد تعرضه للطعن والاعتداء، والجري حين النزيف أخطر الخطر، بل هو الموت الحتمي، ولكن أنّى يكون إدراك ومنطق لحظة الذهول والألم؟ فيا لانكسار القلب يا محمد! ويا لوجع الشعور كلما تخيلت المشهد المفجع!
يلازمني شعور مؤلم، وكأن طالباً من خيرة طلابي في الجامعة قد فُقد، فقد كان من أترابهم، وأنا دائم التتبع لأخبار طلابي ونجاح تقدمهم، وذلك من قبل تخرجهم وبعده، ولكن، كيف أتتبع أخبارك يا محمد؟
** **
وائل بن عبد الله الشهري - أكاديمي سعودي
X: @iwael11