نعيش اليوم مرحلة تاريخية وعصرًا تتقاطع فيه مختلف العلوم مع التقنية، إذ أصبح الذكاء الاصطناعي أحد أبرز ملامح هذا العصر، ولم يعد مجرد فكرة مستقبلية نتنبأ بنتائجها ومخرجاتها، أو مجرد حلم بعيد المنال، بل مرشد نستأنس بوجوده في مختلف جوانب المجتمع، وقد تنوعت تطبيقاته لتغطي ميادين متعددة من البحث العلمي تشمل التعليم، والتربية، إلى جانب الصناعة، والطب، والمجالات الأمنية، والعسكرية، الأمر الذي يجعلنا أمام ثورة معرفية وتقنية غير مسبوقة.
ومع انطلاق مسيرة التحول في المملكة العربية السعودية، وتبنيها أهدافًا ورؤىً طموحة، تواكب التحولات العالمية المتسارعة في مجال الذكاء الاصطناعي؛ ظهرت نماذج لغوية ضخمة، وأصبح هناك تدفق هائل للبيانات والمصادر في مختلف ميادين المعرفة؛ لذا لم يعد البحث العلمي اليوم يستند إلى الأدوات التقليدية وحدها، بل أعيد تشكيل أدواته بفعل ثورة الذكاء الاصطناعي وتقنيات المعالجة الآلية، بما أتاح فرصًا واسعة لتطويع هذه التقنيات في خدمة المعرفة، وفتح آفاقاً جديدة أمام الباحثين لإعادة صياغة أسئلتهم البحثية، وتجاوز المألوف، واستثمار الإمكانات التي توفرها النماذج اللغوية الضخمة في تطوير البحث العلمي والأكاديمي بوجه عام، والبحث اللغوي والنحوي والأدبي بوجه خاص، كما أنّ الباحث اليوم لم يعد أسيرًا للأدوات التقليدية، بل أصبح يمتلك وسائل بحثية متطورة، ومكتبات رقمية ضخمة تتيح له الوصول إلى ما يشاء من معلومات وبيانات؛ ومن هنا يتبادر إلى الذهن سؤال مهم هو: لماذا لا يكون الذكاء الاصطناعي ذاته موضوعًا للبحث؟
إنّ الانفتاح على هذا التصور يُتيح لنا مواكبة العصر والكشف عما يمكن أن تضيفه العلوم إلى بعضها، بما يفتح منظورًا جديدًا أمام الباحثين.
وانطلاقًا من هذا التصور يمكن أن نبحر في أعماق مجموعة من الموضوعات المقترحة التي تمثل أرضية خصبة لدراسات جديدة، تستجيب لمتطلبات العصر، في ظل هذا التداخل الثقافي والمعرفي بين اللغة والذكاء الاصطناعي.
ففي مجال السردية القصصية يجد الباحث نفسه أمام فرصة واعدة للمقارنة بين النتاج الكلاسيكي من القصص العربية والروايات والقصص الحديثة، وبين ما تنتجه النماذج اللغوية التوليدية، مثل: نموذج (علّام) الذي يمكن الوصول إليه من خلال تطبيق Humain Chat، وChat Gpt، وDeep Seek، وغيرها. وتكمن أهمية هذه المقارنة في الكشف عن الفروقات بين القدرة السردية البشرية والقدرة السردية الآلية، لا سيما فيما يتعلق بتوليد الأفكار والشخصيات وبناء العوالم الروائية.
وهذا يجعلنا أمام سؤال آخر، وهو: هل يمكن أن يتفوق النموذج اللغوي على الإنسان في ابتكار سرديات جديدة؟ أم أنه يُعيد تركيب ما تدرب عليه؟
ولعل من أبرز ما يقدمه الذكاء الاصطناعي في ميدان الدراسات اللغوية قدرته على الدقة البيانية، وهو ما يفتح المجال لمقارنة متعمقة ودقيقة بين الإعراب الآلي والإعراب البشري، ويكون السؤال المطروح هنا: هل استطاعت النماذج اللغوية الحديثة أن تعرب النصوص، وتفهم السياقات اللغوية بدقة تضاهي الدقة التي يمتلكها المتخصص في النحو والصرف؟
وفي هذا المجال تتسع دائرة البحث لتشمل اختبار أداء الإعراب الآلي في التعامل مع النصوص التراثية مقابل النصوص الحديثة، وقياس مدى استيعاب النموذج للغة المعاصرة التي اكتسبها من خلال تفاعل المستخدمين معه، وهل تستطيع الخوارزميات العميقة في النحو التوليدي أن تحاكي البنى العميقة في النحو العربي، فتقترب من جوهر آلياته وبنيته الداخلية؟
أما فيما يتعلق بالدراسات اللسانية، فالباحث يجد نفسه أمام آفاق واسعة لدراسة علم اللغة والتحليل الدلالي، من خلال تتبع تطور المعنى، ورصد تعامل النماذج اللغوية مع اللهجات العربية المختلفة ومدى إتقانها لها، كما يمكن التعمق في قضايا التعدد الدلالي وكيفية معالجة هذه النماذج لحالات الغموض أو الالتباس في بعض النصوص، فضلًا عن اختبار قدرتها على استيعاب السياقات الدلالية وفك شفراتها بدقة.
وفي ميدان البلاغة والشعر والنقد، يفتح الذكاء الاصطناعي والنماذج اللغوية التوليدية آفاقًا جديدة أمام الباحث بفضل ما يوفرانه من قدرات تحليلية وثروة هائلة من المصادر النصية، مما يُمكّن الباحث من توظيف هذه الإمكانات في دراسة الأغراض البلاغية وتحليل النصوص، مثل: تتبع أنماط التشبيه والاستعارة، ورصد مدى فهم النماذج للبلاغة العربية وإعجازها، ومقارنتها بالاستعارات والصور التي يبتكرها الإنسان؛ لقياس مستوى الجدة والابتكار لدى كل منهما، كما يمكن إجراء دراسات مقارنة في الوزن والقافية بين الشعر العربي الموروث، وبين ما تولده النماذج اللغوية من نصوص موزونة، إلى جانب اختبار قدرتها على توليد صور شعرية جديدة تعكس روح العصر وتتماهى مع الذائقة الجمالية العربية ، ولا يقل أهمية عن ذلك دراسة الومضة الشعرية، وقياس مدى إدراك النماذج اللغوية لها، والوقوف على من يتفوق في إبداعها: الإنسان أم الآلة؟
أما في مجال النقد، فيمكن استثمار قدرة النماذج اللغوية على القراءة النقدية الآلية للنصوص، ومقارنة هذه القراءة مع قدرة الناقد البشري، في محاولة لتحديد أوجه القوة والقصور في التجربة النقدية الاصطناعية.
إن ما طُرح في هذا المقال ليس سوى مداخل بحثية أولية يمكن أن يتخذ الباحث منها خيطًا ينسج منه مشروعًا علميًا متكاملًا يتفوق فيه على غيره.
إنّ دمج الذكاء الاصطناعي في الأبحاث اللغوية والنحوية والأدبية لا يراد به إقصاء العقل البشري أو التقليل من قدراته، بل هو دعوة إلى توسيع آفاق البحث، واستكشاف أنماط جديدة في المقارنة والتحليل، ورصد العلاقات الخفية بين النص واللغة والسياق.
وما هذه الثورة المعلوماتية في مجال الذكاء الاصطناعي إلا ولادة لأدوات تحليلية مبتكرة، تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والنص والآلة، وتفتح أمام الباحثين مسارات بحثية لم يتم التطرق إليها من قبل.
ولعل ما نشهده اليوم من تداخل بين العلوم والتقنية ليس مجرد ظاهرة معرفية، بل هو مشهد ثقافي معرفي متكامل يليق بعصر الذكاء الاصطناعي، ويتناغم مع تطلعات رؤية المملكة العربية السعودية 2030 نحو بناء مجتمع معرفي متجدد.
** **
- مريم بنت صالح الشويمان باحثة دكتوراه، وخبيرة في توسيم البيانات