التعليم الجامعي في السعودية يعيش اليوم واحدة من أهم مراحله. رؤية 2030 وضعت التعليم في مقدمة مشاريعها، والدولة لم تبخل بالاستثمار في الجامعات والبنية التحتية والبرامج البحثية. والنتيجة أن بعض الجامعات السعودية باتت تظهر في التصنيفات العالمية، وأقسام أكاديمية عديدة حصلت على الاعتماد الأكاديمي المحلي والدولي. هذه إنجازات مشرِّفة تعكس جدية العمل.
لكن، في قلب هذه الصورة المضيئة، هناك جانب يحتاج إلى وقفة. فبينما تحوّل بعض الأقسام الجودة إلى ممارسة حقيقية انعكست في تدريس حديث ومخرجات تعلم واضحة، ما زالت أقسام أخرى ترى في الجودة مجرد تقارير تُملأ وملفات تُرفع. وهنا يبرز التفاوت: قسم يتقدم بخطوات واثقة، وآخر يراوح مكانه.
الحقيقة أن المعيار الحقيقي لأي جامعة ليس عدد أوراقها ولا حجم تقاريرها، بل الطالب الذي تخرِّجه، ومخرجات التعلّم التي يكتسبها. الطالب هو البوصلة التي يجب أن تحدد اتجاه كل قرار وكل خطة. فإذا خرج الخريج واثقًا من نفسه، قادراً على المنافسة في سوق العمل والمساهمة في البحث العلمي وخدمة وطنه، عندها فقط نستطيع أن نقول إن الجودة تحققت.
إن المطلوب اليوم أن تنتقل الجامعات من مرحلة التقارير التي تُرضي لجان الاعتماد، إلى مرحلة التأثير الذي يغيِّر حياة الطالب ويخدم المجتمع. فالجودة ليست أوراقاً، بل ثقافة. والاعتماد الأكاديمي ليس ختماً على ملف، بل شهادة حياة تثبت أن الجامعة تصنع فرقاً حقيقيًا في مخرجاتها.
وما يبعث على التفاؤل أن التجارب الناجحة موجودة بالفعل داخل الجامعات السعودية. أقسام حققت الاعتماد وتقدمت خطوات، وأثبتت أن الطريق ليس مستحيلاً. والتحدي الآن هو أن تعمم هذه الروح على جميع الأقسام، وأن يُنظر إلى الجودة كمسؤولية جماعية يشترك فيها الأستاذ والإداري والطالب، لا كعبء إداري يُلقى على لجنة الجودة وحدها. حتى المتعاقدون من خارج المملكة أصبحوا جزءًا من هذه التجربة، ويساهمون بخبراتهم في رفع المستوى، لأن التعليم في النهاية مسؤولية مشتركة. فالجامعة ليست ملكًا لجنس أو جنسية، بل هي بيت للعلم، يخدم الطالب أولاً ويخدم اسم السعودية في العالم كله.
المستقبل مشرق. فالمملكة تملك الطاقات البشرية، والموارد، والدعم السياسي الكبير. وما نحتاجه هو أن نغرس في جامعاتنا ثقافة الجودة الحقيقية، ونقلِّل الفجوة بين الأقسام المتقدمة والمتعثرة، ونضع الطالب في قلب كل إصلاح. عندها فقط سننتقل من مرحلة الإنجازات الجزئية إلى مرحلة التميز الشامل، ونرى الجامعات السعودية منارات علمية عالمية.
** **
- د. محمد الهلال