المدينة المنورة - خاص بـ«الجزيرة»:
أكد أكاديمي متخصص في الاقتصاد أن الجيل المؤسس ترك للأبناء والأحفاد أكثر من الثروة المادية، إذ ورّث أصولًا ذات قيمة اجتماعية ومعرفية وثقافية كان لها دور في تعزيز مكانة العائلة داخل المجتمع، وتشمل هذه الأصول القيم التي نظّمت العلاقات الداخلية، والممارسات الخيرية التي عززت التكافل، والمهارات الحرفية التي صنعت السمعة المهنية، والعلاقات الاجتماعية التي دعمت الشراكات الاقتصادية والرمزية، مشيراً إلى أن التعامل مع هذه الأصول يتطلب آليات واضحة لنقلها عبر الأجيال، بما يشمل رفع الوعي بأهميتها، وتصميم نماذج عملية لإدارتها، وتطوير مؤشرات قياس تساعد على متابعتها، مع مأسسة خطط تضمن استمراريتها بما يتلاءم مع طبيعة كل أسرة وتجربتها الخاصة.
وقال الدكتور عبد القيوم بن عبد العزيز الهندي الأستاذ المشارك بكلية الأنظمة والاقتصاد بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: من يقرأ بإيجابية تنامي الاهتمام بالمبادرات الموجهة إلى استدامة الشركات العائلية وتعزيز قدرتها على التكيف مع المتغيرات الاقتصادية، مشيراً إلى أنه قد طُرحت برامج عدة تركز على حماية رأس المال المادي، وما يشمله من أصول مالية واستثمارات متنوعة، مما ساعد على دعم مكانة هذه الشركات في الاقتصاد المحلي، موضحاً على أن هذه المبادرات تمثل خطوة أساسية في مسار استدامة الكيانات العائلية، غير أن استكمال الدائرة يتطلب النظر في عناصر أخرى لا تقل أهمية، تتعلق بالأصول غير الملموسة التي شكّلت على امتداد عقود أساس القوة والتأثير لهذه العائلات.
وأبان د. عبدالقيوم الهندي في حديثه لـ»الجزيرة» أن المشهد الراهن يشير إلى أن رأس المال المادي لا يعمل بمعزل عن منظومة أوسع من الأصول غير المادية التي تمنح العائلات التجارية قيمتها الحقيقية ومكانتها المتراكمة في المجتمع، ومن بين هذه الأبعاد رأس المال الاجتماعي القائم على الثقة وروابط العلاقات داخل العائلة ومحيطها، ورأس المال الثقافي الذي يعكس القيم والعادات والمهارات المتوارثة بين الأجيال، إضافة إلى رأس المال الرمزي الذي يتجسد في السمعة والمكانة المستمدة من إسهامات تاريخية وأنشطة متراكمة، كما يتصل بهذا الإطار رأس المال المعرفي الذي يعبر عن تراكم الخبرات والمهارات، ورأس المال المعنوي والعاطفي الذي يحدد مدى تماسك العائلة وقدرتها على نقل هويتها إلى الأجيال القادمة، مؤكداً على أن غياب الاهتمام المنهجي بهذه الأصول يؤدي إلى خسارة تدريجية لمكونات كانت تمثل عناصر تفرد للأسر التجارية. فكم من مزارع عامرة بالنخيل والمنتجات الزراعية تحولت إلى أطلال صامتة، وكم من صالونات ثقافية توقفت عن النشاط بعد أن كانت منصات للفكر والمعرفة، وكم من معامل مهنية اندثرت رغم أنها شكّلت علامة بارزة في تاريخ بعض العائلات، كما تراجعت الحرف التقليدية التي ارتبطت بهوية الأسر، واختفت مبادرات العطاء الاجتماعي التي اعتاد الجيل المؤسس رعايتها على مدى عقود. هذه المظاهر تعكس فجوة في إدارة رأس المال غير المادي وتؤكد الحاجة إلى مداخل عملية لحمايته واستدامته.
وشدد د. عبدالقيوم الهندي الأستاذ المشارك بكلية الأنظمة والاقتصاد بالجامعة الإسلامية على أهمية وجود الميثاق العائلي لأنه يعد من الأدوات العملية التي يمكن أن تسهم في صياغة رؤية مشتركة للأجيال القادمة وتنظيم العلاقة بين الأصول المادية وغير المادية؛ فالعمل على إعداد ميثاق متفق عليه داخل الأسرة يسهم في توثيق القيم والهوية المشتركة، وضبط آليات انتقال المعرفة والمهارات والخبرات، وتحديد أدوار الأفراد في إدارة الموارد المتنوعة، كما يتيح الميثاق بناء تصور استراتيجي يوازن بين الأهداف الاقتصادية والأبعاد الاجتماعية والثقافية، ويضمن استثمار رأس المال المادي بما يعزز مكانة العائلة ويصون إرثها المعنوي والثقافي، مشيراً إلى أن تعميم ثقافة الميثاق العائلي بين الأسر التجارية- وعموم الأسر في المجتمع- يمكن أن يشكل رافدًا لاستدامة رأس المال المادي وغير المادي معًا، وهذا النهج يساعد على تطوير خطط متوازنة تراعي خصوصية كل أسرة وتراكم خبراتها، ويعزز قدرتها على التعامل مع متغيرات السوق ومتطلبات المجتمع في آن واحد، ومن خلال هذا التكامل بين الأصول المتنوعة، يمكن بناء نموذج أكثر شمولًا يحافظ على هوية العائلات التجارية ويعظم أثرها التنموي على المستويين الاجتماعي والاقتصادي.
وأكد د. عبدالقيوم الهندي على أن استدامة الشركات العائلية لم تعد مسألة تتعلق بالأرباح والموجودات وحدها، بل ترتبط بإدراك القيمة الكاملة لرؤوس الأموال غير المادية وإدماجها ضمن السياسات والخطط المستقبلية، وإعادة النظر في هذا الجانب تفتح مساحات أوسع لفهم أدوار العائلات التجارية وإمكاناتها، بما يربط بين تاريخها العريق وإسهاماتها الراهنة وآفاقها المستقبلية، وعبر تعزيز هذا الوعي، ويمكن تطوير نماذج أكثر مرونة وقدرة على التكيف، وتمكّن الأجيال القادمة من البناء على ما تحقق، وتمنح المجتمع مكاسب ممتدة تتجاوز حدود الثروة المادية.