فُجعت المملكةُ العربيةُ السعودية والأمة الإسلامية بوفاة والدها العالم الموحِّد الجليل سماحة المفتي العام للمملكة والرئيس العام لهيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء الشيخ / عبدالعزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ، عن عمرٍ ناهز الاثنين وثمانين سنة بينما كان يُلقي الدرس العلمي لطلاَّبه، فأحسَّ ببعض الألم، فطلب منه طلبته تأجيل الدرس، فأبى إلاّ أن يُكْمِله، فلمَّا تبيّن الألم وتغيَّر الشعور، وافقهم فلازموه إلى المستشفى، إلاَّ أنه لم يَدُمْ طويلاً، حيث وافته المنيَّة صباح يوم الثلاثاء الأول من ربيع الآخر من عام ألفٍ وأربعمائةٍ وسبعةٍ وأربعين للهجرة، وأُدِّيت الصلاة عليه بعد صلاة العصر، في جامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض، في جمع غفير من المسلمين على رأسهم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء (سلَّمه الله) الذي ظهر على مُحيَّاه الحزنُ والأَسى على فِراقه، وأصحاب السمو الملكي، والأمراء والمشائخ والمعالي الوزراء، وجمع غفير من المسلمين، الذين رفعوا أكفَّ الضراعةِ بالدعاءِ للفقيد، بالرحمةِ والمغفرةِ، وتسابقوا على حمل جثمانه بعد الصلاة عليه، وهم في حالةٍ من الأسى والحزن على وفاته، ورافقوه إلى مثواه الأخير، في مقبرة العود، فرحم الله والدنا، رحمةً واسعة.
ويا رب ثَبَّتْهُ على الحقِّ واهدِهِ
إليه وأنطِقه به حين يُسأل
لقد فقدت المملكة والأمة الإسلامية أحد أعلامها الأجلاّء الذين أبلوا بلاءً حسنا في الدعوة إلى الله على بصيرة، والذبِّ عن الدِّين الصحيح، والحفاظ على مكتسباته، والحرص على الأُلفة واجتماع الكلمة، والمحافظة على وقارها، وعلوِّها، وعدم السماح للخوض فيما سواها من المنفكات والتصورات المنفرطة.
وهو ثالث مفتٍ للمملكة بعد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وسماحة الشيخ / عبدالعزيز بن باز (رحمهم الله) متأسياً بهما في صور كثيرة من سلوكياتهما الفردية والأسرية والاجتماعية والوطنية، فقد حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب في سن مبكرة، ودرس أُسُس العلم الشرعي على يدِ مفتي الديار السعودية الشيخ / محمد بن إبراهيم آل الشيخ (رحمه الله) والد معالي رئيس مجلس الشورى الموفق الشيخ / عبدالله بن محمد آل الشيخ (حفظه الله) ودرَس على يد الشيخ/ عبدالعزيز بن باز علم الفرائض، ثم الْتَحق بمعهد إمام الدعوة، وبكلية الشريعة بالرياض على التوالي، ونال الشهادة الجامعية في العلوم الشرعية والعربية، وأصبح أستاذاً مشاركا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وتولّى الإشراف والمناقشة لرسائل الماجستير والدكتوراه لمنتسبي الجامعة، وغيرها من الجامعات، والكليّات السعودية.
تقلَّد العديد من المناصب في حياته إذ عُيِّن إماماً وخطيباً لجامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض، وخطيباً لمسجد نمرة بعرفة (خمساً وثلاثون سنة) وعضواً في هيئة كبار العلماء، وعضواً متفرغاً في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ونائباً للمفتي العام للمملكة، وفي عام 1420هـ، صدر أمر ملكي بتعيينه مفتياً عاماً للمملكةِ، ورئيساً لهيئة كبار العلماء، ورئيسا للرئاسة العامة للإفتاء، بعد وفاة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز (رحمهما الله) فكرَّس حياته لخدمة الدِّين والإفتاءِ ونُصْحِ الأمّةِ وولاةِ الأمر.
وللفقيد عِدَّة مؤلفات شرعيَّة، تشمل: الفتاوى، والعقائد، وأحكام الحلال والحرام، وكتب أخرى مصنَّفة من مجموع الفتاوى في العقيدة، والطهارة، والصلاة، والزكاة، والحج، وكتاب الله عزَّ وجل ومكانته العظيمة، وكتاب الجامع لخطب عرفة، وغيرها؛ فكان (رحمه الله) واسع الأفق في علوم الشريعة، يلزم الجانب التعبدي، ولا ينفك من المسجد، وقراءة القرآن الكريم، ولا من إلقاء الدروس العلمية، والمحاضرات، والمشاركة في الندوات، والبرامج الدينية، فسماحته (رحمه الله) سليلُ بيتِ العِلِم والشرف الرفيع من أسرة آل الشيخ / محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) الذي صَدحَ بالدعوةِ إلى توحيدِ الله خالصةً من البدعِ والشركيات.
لقد أبكانا فَقْدُ سماحته (رحمه الله) الذي رحَل عنَّا بنبيل سماته، وكريم شمائله، وعطفه، وثقة الناس به أجمعين، ولن نحظى بعد اليوم بمشاهدته، ولا الاستماع إلى دروسه في مجلسه، وهو الحزين هذه الأيام على فراقه، فرحمك الله يا أبا عبد الله رحمة واسعة، وجعل الجنة مستقرك ومأواك.
ولن أنسى تلك السنين الخوالي قبل عام 1398هـ التي أرافق فيها والدي الشيخ سعد بن محمد بن فيصل المبارك (رحمه الله) وإخوتي للسلام على سماحته في منزله متى ما زرنا الرياض، واستئناسي بتلك العلاقة الحميمة بينهما في السلام، والكلام، والسؤال، والمصافحة، فلا تسمع منهما إلاّ مختاراً من الحديث، وما يتحدثان إلاَّ بأحسن ما يعلمون ويحفظون من القرآن الكريم (بستان العلماء) فازدانت العلاقة، وتلألأت آثارها بالمحبة، والتقدير، والمصاهرة.
والله من يبني الطباع قويمةً
وهو الذي يبني النفوس عدولاً
فرَبَتْ هذه المحبَّة في النفوس، وامتدت جذورها في الأسرة، وأكثر من تلبَّسها أخي الأستاذ / عبد الله بن سعد المبارك (حفظه الله) الذي تربطه بالفقيد علاقة وثيقة، فصار مقرِّه في حريملاء ملتقىً لسماحته بالأقارب والوجهاء سنوياً، ينهلون في (مجلسه الطيِّب) من معينِ علم سماحته المؤصّل، فيصير مجمعاً للعلمِ والأُنسِ في آن، وهذه هي الصحبة الصالحة التي تنطبع تفاصيلها في الذاكرة؛ فلا ينالها النسيان.
وانطلاقاً من قول الإمام الشافعي رحمه الله:
أخي لن تنالَ العِلْمَ إلاّ بِستةٍ
سأُنبئك عن تفصيلها ببيانِ
ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبُلغَةٌ
وصُحبةُ أستاذٍ وطول زمانِ
فقد رجوته (رحمه الله) في مكتبه قبل التقاعد إبّان إشرافي على معهد الأئمة والخطباء بوزارة الشؤون الإسلامية التي يتولى شؤونها الآن وزيراً معالي الشيخ عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ بحكمةٍ، وطمأنينةٍ، وفِطنة، رجوته من أجل المشاركة في تعزيز برامجنا العلمية المتخصصة في التأصيل الشرعي لفقه الانتماء والمواطنة في المملكة العربية السعودية آنذاك وغيره من البرامج؛ فاستجاب (رحمه الله) على أن يكتفى بإلقائه المحاضرات والكلمات خارج مدينة الرياض بالهاتف لظروفه سماحته الخاصة، فلقي صوته فرحةً وترحيباً كبيراً من المستهدفين، وهم النخبةُ من طلبةِ العلمِ، وأساتذةُ العلوم الشرعيةِ، شرح لهم مفهوم معنى المواطنة الصالحة، وحبُّ الوطن، ومعنى وجوب طاعة ولي الأمر التي نسعى إلى ترسيخها، وبيانها للناشئة، ومُحتاجِيها؛ لإبعادهم عن كلِّ ما يهدِّدُ أمن الوطن واستقراره؛ فكان (رحمه الله) خير المُعِين في التوجيهِ والمناصحة.
كما تناول سماحته (رحمه الله) في لقاء آخر، الأسلوب الأمثل لعمل الدعوة إلى الله، مؤكداً على ضرورة أنه لا ينبري الداعية لعمله بإخلاص إلاّ بصدقه مع الله، وأن يشعر بالمسؤولية في اختيار الكلمات الطيّبة الموزونة، التي تدعو إلى جمع الكلمة، وتوحيد الصف، وتأليف القلوب، وأن ذلك لا يتأتّى إلاّ عندما يكون الداعي إلى الله على بصيرة، ومعرفة بالطريق الذي يَسْلُكه حسب الزمان والمكان.
وفي لقاءٍ ثالث لسماحته (رحمه الله) دعا فيه الخطباء إلى معالجة أخطائهم بواقعية، وطالبهم بالبعد عن الألفاظ التي تأخذ أكثر من محمل، واختيار الموضوعات النافعة للناس، وحثّهم على معالجة الأخطاء في واقعنا دون أن نمتد لغيرنا.
وشدَّد (رحمه الله) في مناسبة أخرى على عِظَم مشروعية خطبتي الجمعة، وأن مسؤولية الخطيب استغلالها الاستغلال الأمثل في إرشاد الأمَّة، والنُصح، والتوجيه، والهداية إلى الطريق المستقيم، وأنها مسؤولية شرعية, وأمانة عظمى استرعاهم فيها ولي الأمر.
هذه نبذة يسيره من أساليب الفقيد المباركة في النصح والتعامل، وفوائده النقيّة التي لا تنفك من الأذهان، وما سألناه في عمل ذي فائدة إلاّ استجاب، وما زرناه في جماعةٍ إلاَّ كان النُصحُ لهم ناصية الكلام؛ فكان (رحمه الله) محدّثاً بارعاً، ليِّناً، قوي الحجة، حاضرَ الدليل، لا تأخذُه في اللهِ لومةَ لائم، والحياةُ عندَه عبادةٌ، وطاعةٌ لله بإخلاص، وطمأنينة.
وإِنْ كان القدرُ المحتوم قدْ غيَّبهُ عنَّا، فإنَّ خصالُه، وطيبُ تعاملاتِه، وما كان يدعو إليه من كريمِ السجايا، والبَذْل، والسَمْت، والأناة؛ فهي باقية (ولله الحمد) في أبنائه: الدكتور عبد الله، وبقية إخوته محمد، وعمر، وعبد الرحمن، وجليسه الدائم وخليله الدكتور هشام بن عبدالملك بن عبدالله آل الشيخ (وفقه الله) وأبناء المرحوم الشيخ عبد الله بن صالح آل الشيخ (حفظهم الله) وأقول لهم، ولإخوتهم، وأبنائهم، وأهليهم، وأقربائهم، وكل الذين يوجعهم فراقه:
اصبر لكُلِّ مصيبَةٍ وتجلّدِ
واعْلَمْ بأن المرءُ غير مخلَّدِ
أَوَ مَا ترى أنّ المصائِب َجمَّة
وترى المنيّةَ للعبادِ بمرصدِ
وإذا ذكَرتَ محمداً ومصابَه
فاذكر مصابَك بالنبي محمدِ
وإنَّك يا والدنا، وشيخنا، وحبيبنا، وخليلنا، وقدوتنا (بإذن الله تعالى) في الفردوس الأعلى من الجنة، مع الصديقين الأطهار، جزاء عبادَتِك النقيَّة، وأفعالِك المخلصةَ لله وحده، وثمرةَ واسِع رصيدك الكبير من حبّ الناس، وتقديرُهم لكَ في المملكة العربية السعودية، وفي العالم الإسلامي بأسره، والله هو الحيُّ القيُّوم الدائم وحده، {إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون}.
ولا يفوتني مبادرة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد (حفظه الله)، الذي ما انفك عن زيارة الفقيد، والاطمئنان عليه، ومتابعة صحته، إبَّان مرضه (رحمه الله) ومن ثمّ تسمية شارع في مدينة الرياض باسمه لإحياء ذكره. وأقول لسموه:
سلمانُ حقاً ابنه سلمانُ
بين الرجال فريدُ في العلياءِ
الكلُّ يشهدُ بالأمانةِ أنَّه
رمز الفضائل قمّة الآلاءِ
يا رب يا رحمن حمداً دائماً
أسعدتنا بمحمدِ الأضواءِ
إنّي أفاخرُ كلّ أوطاني به
هو رمزُ كلّ فضائل النُجباءِ
ربّي لك الحمدُ الصدوقُ ومُهجتي
عندَ السجودِ يفيضُ كل دعاءِ
وصلَّى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
** **
قاسم بن سعد المبارك - مدير معهد الأئمة والخطباء سابقاً
qalmubarak2022@gmail.com