تبدأ الحكاية -حكاية المعرض الدولي للكتاب في الرياض- من أول لحظة تخطو فيها قدماي أرض المعرض، إذ يتسلل إليّ عبق الكتب، ورائحة الورق النقي، تلك الرائحة التي تشبه رائحة المطر التي توقظ أجمل ما بداخلنا من ذكريات للقراءة، وتعود بنا إلى ذاكرة القراءة الأولى، أول كتاب قرأته، وأول كتاب اقتنيته، وتحرك فينا شغف ذلك الطفل الصغير وفضوله الذي يقلب صفحات أول كتاب اشتراه، وهو لا يعلم أنّ بداخل هذه الكتب عوالم كاملة.
تلك الرائحة التي تمتزج برائحة القهوة وبصدى الخطوات، وضجيج الزائرين في مشهد يضج بالحياة، والحكايات المخبأة، والكتب التي تنتظر من ينفض عنها الغبار، ويوقظها من سباتها الطويل.
وكأن المكان مكتبة جمعت الكون كله تحت سقفها، تحاور الجميع بلغات شتى، وتهدي المعارف والعلوم بطرق مختلفة، وتفتح نافذة المجهول إلى عالم المعرفة.
ولا ننسى ضحكات الأطفال وخطواتهم السريعة، لاكتشاف المعرفة، ومع هذا الضجيج، والتأمل في تلك الخطوات المستعجلة، نُدرك أن الكتب ما زالت تتنفس رغم زحام التقنية، وأن صمتها المهيب وثقل حضورها دليل على أنّها لم تتخلَ عن مكانتها الخالدة.
في كل زاوية من زوايا المعرض حكاية، وبين كل رواق من أروقته رواية، وفي كل دار نشر من دوره صوت ثقافة قادم من بعيد، نتنقل بين الأرفف وكأننا نعبر القارات دون أن نغادر المكان، تنجذب أعيننا إلى تلك الكتب المصفوفة وهي تشبه الجنود القادمين من أزمنة مختلفة يحفظون أسرار مؤلفيها، وتجذبنا تلك الدور بعناوين كتبها الجديدة، فبعضها يغرينا بغلافه البهي، وبعضها يفرض حضوره من اسم مؤلفه، وبعضها يلامس النفس وهمها اليومي.
ونحن نتجول بين هذه الدار وتلك نجد في أحد الأركان كاتباً يجلس ليوقع كتابه بابتسامة مطمئنة، وتحيط به جيوش من القراء ممن يحملون في أيديهم نسخًا من كتابه، وجميعهم يحملون أيضًا الحلم ذاته أن يلتقوا بصوت قرأوا أحرفه من قبل، ويخترق صمت الكتب بين الأجنحة والدور العابرون الذين تجذبنا حواراتهم الصغيرة مع البائعين فننصت إليها، ونراقب بشغف العيون التي تلمع كلما وُضِع كتاب جديد في الحقيبة.ما يميز معرض الرياض الدولي للكتاب ليس كثرة الكتب فقط، بل تنوّع الناس الذين يأتون إليه، فترى العائلة تمسك بأيدي أطفالها وهم يكتشفون عالم القصص المصورة، وتلمح الطلبة وهم يتزاحمون في أجنحة الفكر والفلسفة، وتسمع همسات الأصدقاء وهم يتجادلون حول أفضل رواية أو أكثر الكتّاب تأثيرًا.
في لحظاتٍ كهذه، تشعر أنّ الكتاب لم يعد مجرد سلعةٍ ثقافية، إنّه جسر يربط بين الناس، وبين الأجيال، وبين الماضي والمستقبل، فالمعرض ليس مكانًا للشراء فحسب، بل هو مساحة للقاء، للمعرفة، وللشغف الذي يتجدد كل عام.
في أثناء تأملاتي لزوار المعرض شدّني مشهد لطفل صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره، وهو يحمل بين كفيه مجموعة قصصية، لم يضعها في كيس، بل حملها بين ذراعيه وقربها إلى صدره، يرقبها كل لحظة ليتأكد أنه بالفعل قد اقتناها، وكأنه يخشى أن تفلت منه الحكاية قبل أن يقرأها فعيناه تشعان بفرح نادر، ووجهه يفيض ببراءة وشغف، وهو يترقب المجهول الذي ينتظر أن ينكشف له فيما بين السطور.
كان يسير بخطى سريعة، وترتسم على شفتيه ابتسامة الحماس، ابتسامة لا تشبه إلا لحظة اكتشاف للحقيقة، يتأمل أغلفة الكتب، ويحتضنها كمن عثر على كنز لا يعرف قيمته إلا هو.
عندها فقط أيقنت أنه مهما بلغت سطوة الأجهزة تظل للكتب قيمتها، وأن هؤلاء الصغار أعادوا الأمل في المستقبل الذي نحلم به، جيل سيحمل هم المعرفة والقراءة، وهم التطور والتنمية، كما يحمل هذا الطفل كتبه بكل ثقة ومحبة.
ولأن المعرض يحتفي بكل الأعمار، كان لافتًا حضور دور النشر المخصصة للأطفال، تلك التي أعادت صياغة المعرفة بلغة اللعب والمرح.
فلم تكتفِ هذه الدور بعرض القصص والكتب الملوّنة، بل قدّمت تجارب تفاعلية تمزج بين التعلم والترفيه، وبين القيم الدينية والمواقف الحياتية، التي أثبتت لنا كيف يمكن للعب أن يكون جسرًا للعلم والمعرفة.
وكعادة الصدف في كل معرض كتاب، لا تفتأ أن تجمعني بكتاب وأدباء عُظماء، هذه المرة شاء القدر أن أقف عند دار وأجد فيها كاتبًا وروائيًا فازت روايته بتحويلها إلى سيناريو سينمائي من جمعية الأدب المهنية، ألا وهي رواية (ابنة ليليت) للكاتب: أحمد السماري.
كان حواري معه لم يتجاوز الدقائق، إلا أنني خرجت من هذا اللقاء بخلاصة تجاربه في رحلته الطويلة من القراءة إلى عالم الكتابة والرواية، التي تجمع ما بين حكمة التجربة والإيمان بقوة الحرف والكلمة؛ ليثبت لنا أن الكتابة ليست هواية أو مهنة، بل نجاة، حينها أدركت أن مثل هذه اللقاءات لا تأتي صدفة، بل تختارنا في لحظة جمال لتترك فينا أثرًا لا يمحى، وتكتب في صفحات جولة المعرض فصولًا جديدة، ففي المعارض لا نشتري الكتب فقط، بل نحمل معنا حكايات ولقاءات نخلدها في الذاكرة.
وفي كل عام، أجد قدميّ تقوداني إلى الدار ذاتها، تلك التي أزورها منذ سنواتٍ طويلة، كأنها محطة ثابتة في رحلتي مع القراءة. وجوه العاملين فيها مألوفة كأصدقاء قدامى، أحيّيهم بابتسامةٍ يعرفون معناها.
أتأمل الكتب التي اقتنيتها منهم في الأعوام الماضية، فأشعر بفخر الإنجاز وامتنانٍ لتلك الصفحات التي شاركتني سنواتي الماضية. وفي كل رفٍّ جديد كتابٌ يُغويني، فكرةٌ تُنادي، وشغفٌ يتجدّد.
إنها دارٌ تشبه ذاكرة القارئ؛ كلما زرتها وجدت فيها بعضًا من نفسك، وبعضًا مما لم تعرفه بعد.
غادرت المعرض ويدي مثقلة بأكياس الكتب، وقلبي مثقل ببهجةٍ لا تُشترى. أدركت أن الكتاب لا يموت، مهما تغيّر الزمان وتطورت الوسائل.
كنت أرى في وجوه الأطفال والشباب ملامح الغد الذي ننتظره، الغد الذي يكتب سيرته بالمعرفة لا بالصدفة، وفي عبق رائحة الورق، وصمت الكتب، وضجيج القراء وجدت مزيجًا من الماضي والحاضر والمستقبل، ووجدت معنى الحياة الثقافية الحقيقية: أن تظل الكلمة منارةً، وأن يبقى القارئ هو المحرّك الأجمل لعجلة التنمية والحضارة.
يبقى معرض الرياض الدولي للكتاب حدثًا لا يُختتم، وحدثًا ينتظر كل عام؛ لأنه يزرع في كل زائرٍ رغبةً جديدة في القراءة، وإيمانًا أن الكتاب سيظلّ أقوى من الصمت وأجمل من الضجيج.
غادرت وأنا أعلم أنني لم أخرج من المعرض إلا وقد حملت معي شيئًا من نوره، شيئًا من الأمل، ووصيةً من كل كتابٍ صامتٍ تقول: «اقرأ لتعرف نفسك، لتكتشف من أنت، عندها فقط سوف تعرف قيمة الكلمة، هذا هو الهدف من القراءة، وليس اكتناز المعلومات».
إن مثل هذه الزيارات تعطينا انطباعًا بأنّ المعرفة فوق كل اعتبار، وأنّها سلطة يحتاجها الخبير قبل الطالب، وترسخ في أذهاننا وجوهًا عملت الكثير من أجل نفسها، ومن أجل مستقبلها خدمة للعلم وما أجمل أن يظفر الإنسان بخدمة العلم في زمن مليء بالملهيات، وأجدني ممتنة للشباب والشابات القائمين على خدمة زوّار المعرض وأغبطهم على طاقتهم العالية وروحهم المتفانية التي تثبت أن العمل التطوعي الثقافي عمل مستدام في بلادنا الحبيبة.
** **
مريم بنت صالح الشويمان - باحثة دكتوراه وخبيرة في توسيم البيانات