الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
في الوقت الذي كثرت فيه المشكلات الأسرية، ظهرت على السطح ظاهرة نشر الخلافات على منصات التواصل الاجتماعي بكافة أنواعها، دون وازع ديني، وبلا حياء وشيمة.
ولا شك أن هذا نذير شؤم وفقدان للتعقل والحكمة في معالجة المشكلات.
«الجزيرة» استطلعت عددا من أهل الرأي في مختلف المجالات، لمعرفة أسباب حدوث ذلك في المجتمع، والسبل الكفيلة لمعالجتها قبل استفحالها.
الستر عبادة عظيمة
بداية يحدد الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الشهري المحامي والمستشار الشرعي أسباب الظاهرة بالأدلة والأمثلة، ومنها:
1 - ضعف الوعي الديني وفقدان قيمة الستر، قال صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة» (رواه مسلم).
هذا الحديث أصل في التحذير من كشف العيوب أو نشر الخلافات، إذ يجعل الستر عبادة عظيمة يُجازى عليها المؤمن.
* انتشار نشر الخلافات الزوجية أو العائلية في وسائل التواصل يناقض هذا المبدأ، لأن فيه كشفًا لأسرار البيوت التي أمر الله بصيانتها.
2 - السعي لكسب التعاطف أو الشهرة، قال تعالى: {يُرَآؤُونَ النَّاسَ} (142) سورة النساء.
أي يعملون ليُنظر إليهم، وهو وصف مذموم شرعًا.
* بعض المؤثرين يسعون لإثارة الجدل أو كسب المتابعين عبر بث الخلافات العائلية، كما تُظهر حالات كثيرة تداولها المنصات الرقمية.
3 - غياب ثقافة الحوار والحكمة في معالجة الخلافات، قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (34) سورة فصلت.
وهو توجيه رباني لمعالجة الخلاف بالحكمة لا بالفضيحة.
* في السنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (متفق عليه).
فالتعقل وضبط النفس في الخلافات من صفات الحكماء.
ويقدم الشيخ عبدالرحمن الشهري، بعض الحلول والمعالجات بالأدلة والأمثلة، ومنها:
1 - تعزيز التربية الإيمانية والإعلامية
* التربية الإيمانية تُنشئ الفرد على الخوف من الله ومراعاة حق الآخرين، قال تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} (83) سورة البقرة.
* أما الإعلامية، فتعني توجيه المنصات الإعلامية لتثقيف الناس عن أضرار نشر الخلافات، كما فعلت بعض المبادرات الرسمية مثل «برنامج وئام» التابع لوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في السعودية، الذي يعزز ثقافة الإصلاح الأسري.
2 - شر الوعي بأضرار التشهير الأسري
* علميًا، تشير دراسات اجتماعية إلى أن التشهير الأسري يؤدي إلى تفكك العلاقات وتدهور صورة الأسرة أمام الأبناء والمجتمع.
* نظامًا، يجرم نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية (المادة 3) نشر أي محتوى يمس بالحياة الخاصة أو العائلية للآخرين عبر وسائل التقنية، بعقوبة تصل إلى السجن سنة أو غرامة 500 ألف ريال.
3 - تشجيع الإصلاح عبر الجهات المختصة
* مثل: مراكز الإصلاح الأسري في المحاكم، ولجان التوفيق التابعة لوزارة العدل، وجمعيات التنمية الأسرية (إرشاد، وئام، ناصح).
* قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} (35) سورة النساء.
وهو أصل تشريعي في الإصلاح الأسري قبل الانفصال أو الفضيحة.
4 - سنّ أنظمة تحفظ حرمة البيوت وتصون كرامة الأسرة والمجتمع
* أكدت رؤية المملكة 2030 في محور مجتمع حيوي على «تعزيز قيم الأسرة والاعتزاز بالهوية الإسلامية».
* كما نصّ نظام حماية الطفل ونظام مكافحة الإيذاء الأسري على حفظ كرامة الأسرة وحرمة الحياة الخاصة.
انهيار الحياة
وتشير الأستاذة وعد بنت عبدالرحمن القحطاني المحامية والمستشارة القانونية إلى أن هذه الظاهرة ليست مجرد سلوكٍ عابر أو تنفيس لحظة غضب، بل هي انعكاسٌ عميق لأزمة وعي واهتزازٍ في منظومة القيم التي كانت تضبط الأسر والمجتمعات يومًا ما، حين تُنشر الخصوصيات على الملأ، فالمسألة لا تتعلق بخلافٍ عائلي، بل بانهيار الحياء الجمعي، وانسحاب الحكمة من المشهد لصالح «الترند» واللايكات، وكأن الإنسان بات يقايض كرامته برقمٍ في شاشة، مشيرة إلى أن أسباب ذلك كثيرة، لكن جوهرها واحد: الفراغ الداخلي، فكلما قلّ حضور الله في القلب، ازداد الصخب على المنصات، وضعف التربية على ضبط النفس، وغياب القدوات التي تعلّمنا كيف نختلف بعقلٍ ورُقي، وتضخم الذات في زمن الظهور، وهذه جعلت من وسائل التواصل ساحةَ تصفيةٍ لا إصلاح.
الصمت المحسوب
وتؤكد المحامية وعد القحطاني أن العلاج ليس في وعظٍ أخلاقي عابر، بل في إعادة بناء الوعي الجمعي، وعلينا أن نعيد للبيت هيبته، وللكلمة حرمتها، وللستر مكانته، وأن تُدرّس قيم الخصوصية والستر في البيوت كما تُدرّس القراءة والكتابة، وأن يُفهم الناس أن ما يُقال في لحظة غضبٍ على المنصات لا يُمحى بسهولة، وأنه يظلّ شاهدًا على تسرّعٍ وندمٍ طويل.
وترى الأستاذة وعد القحطاني أن الحكمة اليوم ليست في كثرة الكلام، بل في «الصمت المحسوب»، وأن تعرف متى تتكلم ومتى تصون سرك، لأن الأسر لا تُبنى بالتشهير، بل بالتقدير، والمشكلات لاتُحل في العلن، بل في حضن الستر والعقل والرشد.
حين تحول الخلافات إلى «ترند»
وتقول الأستاذة جواهر بنت علي الشويمي المحامية: في زمنٍ أصبح فيه كل حدثٍ يُصور، وكل شعورٍ يُنشر، خرجت الخلافات الأسرية من جدران البيوت إلى فضاء المنصّات، تبحث عن جمهورٍ يُصفق أو يُعلّق، لا عن حلٍّ يُنهي الخلاف، والمشكلة ليست في التقنية، بل في طريقة استخدامها؛ فالمشكلة لا تُعالج بالهواتف، بل بالعقول.
وتشدد جواهر الشويمي على أنّ نشرَ الخلافات الأسرية على الملأ لا يُصلح حالًا، بل يُضاعف الجفاء، ويكشف المستور الذي أمر الشرع بسترِه، والعُرفُ بصونه. وكثيرونَ يجهلون أن نشر الخلافات قد يتحوّل إلى قضيةٍ جنائية أو دعوى تشهير، وأنّ الكلمة التي تُقال لحظةَ غضبٍ تبقى في ذاكرة الإنترنت، تُستخدم ضدّ صاحبها لا لصالحه، وقد بيّنت الهيئة العامة لتنظيم الإعلام صراحةً أنّ كشفَ خصوصيات الأسرة أو عرضَ خلافاتها الداخلية يُعدّ انتهاكًا تنظيميًا يعرض صاحبَه للمساءلة، كما حذّرت من إعادة نشر المحتوى المخالف لما فيه من تبعات نظامية، وهي رسالةٌ واضحة بأن منصّات التواصل ليست ساحةً مباحةً لكلّ ما يُقال أو يُعرض.
أصلان متكاملان
وأوضحت المحامية جواهر الشويمي أن الحلّ قبل تفاقم الخلاف يبدأ من أصلين متكاملين: أولهما الإصلاح الداخلي الذي يقدّم الحوار الهادئ والوساطة الأسرية على أيّ نشرٍ علني، وثانيهما الوعيٌ نظامي الذي يذكّر بأنّ الإساءة أو التشهير عبر الوسائل التقنية فعلٌ مُجرّم بموجب المادة الثالثة من نظام مكافحة جرائم المعلوماتية التي قرّرت السجن أو الغرامة أو بهما معًا. ومن هنا تبرز أهمية اللجوء إلى منصة تراضي ومراكز الإرشاد الأسري النظامية والتي تسهم في تحقيق التوازن الأسري واستقراره، وتساعد على فهم أدوار أفراد الأسرة ومعالجة الخلاف داخل إطارِه الصحيح، مما ينعكس إيجابًا على تماسك المجتمع وسلامته.
فالبيت لا يحتاج جمهورًا يراه، بل قلوبًا تفهمه، وإذا فُقد سترُه، فُقد دفءُ الأمان فيه. فليكن السترُ عادة، والحِكمةُ طبعًا، فبذلك تُروى البيوت وتبقى عامرة مطمئنة.
صناعة الحمقى
ويتأسف الأستاذ أنور بن أحمد البدي الكاتب التربوي حينما يتحول الخلاف الأسري إلى محتوى إعلامي، وحين تُنشر الخلافات الأسرية على منصات التواصل عند الغضب، تتسرّب الحماقة دون ضابط، فيحدث شرخ يصعب التئامه، وتتهشّم مقومات الأسرة، ويتشرّد الأطفال بين قلوبٍ مكسورةٍ ونفسياتٍ مضطربة، وكل هذا الدمار سببه قلة الوعي، وسوء التصرف، وغياب الرادع من قيمٍ أو ضميرٍ أو شرع.
ويضيف متسائلاً: كيف أصبح كشف أسرار البيوت وفضح عوراتها مشهدًا يتسلّق عليه السفهاء لتسقيط خصومٍ كانوا بالأمس شركاء حياة؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ابتُلي فليستتر»، فكيف بمن جعل الابتلاء مادة للعرض والتشهير؟
ويشدد أنور البدي على أن المنصات ليست ساحة لحل المشكلات، ولا جمهورها أهلُ إصلاحٍ أو نصيحةٍ صادقة، ولابد من البدء بعقلاء العائلة، ثم وجهاء المنطقة، فإن لم يُجدِ ذلك نفعًا، فاستعينوا بالمختصين الأسريين.
وإن تعذّر الصلح، فليكن تسريحًا بإحسان قبل أن تحرقوا ما تبقّى من جذور المودّة، وتذكّروا أن بينكم أطفالًا ضعفاء، وأن العائلة كنزٌ لا يُقدّر بثمن، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي».