سارة الشهري
جميعنا نتغنى ونردد ما قال حافظ إبراهيم عندما يأتي الحديث عن الأم، إنّ الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق، ولكن هذه الحكمة ليست مجرد بيت من الشعر يتردد، بل حقيقة نلمسها في تفاصيل حياتنا اليومية. لكن ما نراه اليوم في الأسواق والمطاعم والحدائق يجعلنا نتساءل بقلق: هل ما زالت هذه المدرسة تقوم بدورها كما ينبغي؟
خلال الأيام الماضية، شاهدت في الأماكن العامة عدة مواقف لأطفال يمارسون سلوكيات مزعجة وغير مقبولة، صراخ بلا سبب، رمي للأغراض، كلمات غير لائقة، وفوضى تعم المكان. المدهش أن السبب لم يكن اندفاع الطفولة وحده، بل غياب دور الأم التي كانت في كثير من المشاهد الحاضر الغائب إمّا منشغلة بهاتفها، أو تتبنى سياسة (اتركوه سيهدأ من نفسه)!
المشكلة ليست جديدة، لكنها أصبحت أكثر وضوحاً في الآونة الأخيرة، الأم رغم تعليمها العالي لا تؤدي دور المربي كما يجب، فهناك من تحمل شهادات عليا، من ماجستير وحتى دكتوراه، لكنها لا تفقه أساسيات التربية السليمة التي كان الأجداد رغم أميّتهم يجيدونها بفطرتهم.
الأجداد كانوا يملكون بصيرة تربوية تنبع من (قيمة الحضور). كانوا يدركون أن الطفل يحتاج إلى عين تراقبه، وحدود تضبطه، وكلمة تزرع فيه القيم، وقدوة تعلّمه دون أن تنطق. لم يكونوا يعرفون شيئاً عن نظريات التربية الحديثة، لكنهم كانوا مع أطفالهم، قريبين منهم، وهذا وحده صنع فرقاً كبيراً.
اليوم، لم يعد الخلل في نقص المعرفة، بل في غياب الوعي. الأم قد تقرأ عن التربية، لكنها لا تطبق. تعرف الصواب، لكنها تؤجله. تحضر بجسدها ولا تحضر بقلبها وانتباهها. وهنا بالتحديد تتشكل المشكلة التربية ليست علماً يُحفظ، بل علاقة تُمارس.
أحد المشاهد التي رأيتها كان لطفل يسحب الأغراض من الرفوف في السوق بينما أمه تتصفح هاتفها بلا مبالاة. وعندما أحدث الإزعاج صرخت فيه بغضب: لماذا تفتعل المشاكل؟ لكن الحقيقة أن الطفل لم يفتعل شيئاً، إنه فقط ترك بلا توجيه.
التربية ليست تأمين طعام وملابس، بل هي بناء إنسان يدرك احترام الآخرين، يعرف حدود الحرية، ويميز الصواب من الخطأ. إنها وقت يُمنح، وانتباه يُعطى، وكلمة تُقال في وقتها الصحيح.
نحن بحاجة إلى الاعتراف بأن دور الأم مهما حاولت المؤسسات الأخرى التعويض عنه يبقى الأساس والمحور. وإن غاب هذا الدور، أصبح المجتمع نفسه يدفع ثمن السلوكيات الفوضوية التي نراها في الأماكن العامة.
في النهاية، إذا أردنا جيلاً مهذباً، متوازناً، وواثقاً، فعلينا أن نعيد الاعتبار لدور الأم كمدرسة لا بديل لها. فالأم ليست راعية فقط، بل صانعة أجيال. وإن غابت المدرسة الأولى، ضاع المنهج كله.