لقد ترك رحيل الأستاذ الدكتور محمد بن علي العقلا -رحمه الله- في القلب لوعة فقد لا يخفّفها إلا الإيمانُ بحكمة الله ورحمته، والرضا بقضائه وقدره: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا}.
نسأل الله العلي القدير أن يغفر للفقيد العزيز، وأن يوسّع عليه في قبره، ويؤنس وحشته، ويجعله من أهل النّور والرّضوان، وأن يكرم نزله ويجمعه بمن أحبّ في جنّات الخلد.
إنّ من فضل الله على الفقيد أن منحه الله الشّرف الأثيل في خدمة المدينتين المقدّستين؛ فكان في جامعة أم القرى نجمًا مرموقًا، وقائدًا ملهماً أسهم في دعم مسيرتها العلميّة والعمرانيّة في مكّة المكرّمة، ثم تولّى قيادة الجامعة الإسلاميّة في المدينة المنوّرة بحكمة وتميز واقتدار، فخدم العلم وأهله، وترك أثرًا واضحًا على مسيرتها تشهد له في الدّنيا، وتبقى له عند الله ذخراً وأجراً.
وفي مكة المكرّمة عرفت أسرةَ العقلا أسرةَ وفاءٍ وعملٍ جادّ، كابرًا عن كابر، بدءًا بالجد الشيخ علي، ثم بالأبناء الذين لمع بينهم الشّيخ فراج، علَمُ الدّعوة الأبرز، وتتابع العطاء في د. عبدالعزيز وأ.د. محمد رحمهم الله جميعًا، وإخوتهم وأبنائهم.
إرثٌ ممتدّ من خدمةٍ صادقة، وسيرةٍ ناصعة، ووفاءٍ عُرف به هذا البيت الكريم عبر عقود.
كانت علاقتي بمعالي الفقيد علاقة ودّ واحترام وتقدير، علاقة زادها الزّمن رسوخًا لا تلاشيًا. ومن ذكرياتي الجميلة معه مشاركتي لمعاليه ومعالي أ.د. ناصر الصّالح في ندوة أدبيّة بنادي مكّة الثّقافي الأدبي، وما زال حديثه الشّائق فيها يرنّ في الذّاكرة، كنسيم روحٍ لا يغيب.
كما جمعتني به صحبةٌ كريمةٌ أخرى مع معالي أ.د. بكري عسّاس – مدير جامعة أم القرى الأسبق – في دعوة من الصّديقين العزيزين معالي أ.د. سعيد آل عمر، مدير جامعة الحدود الشّمالية الأسبق، ومعالي د. محمد آل عمرو، أمين مجلس الشورى الأسبق، وكانت وجهتنا مدينة بيشة، مدينة النّخلة الباسقة، والإنسان المنتج.
وفي تلك الرحلة كان -رحمه الله- نعم الرّفيق والصّاحب، الذي حوّل السّفر مع أ.د. بكري إلى متعة لا تُنسى، وفائدة لا تُمحى، وحديثًا يفتح القلب على السّعة والطّمأنينة.
إنّ ما يجبر الخاطر ويخفّف المصاب أن الفقيد -رحمه الله- ترك أبناءً بررة، يحملون امتداد سيرته، وهم الإرث الكريم الذي سيواصل من بعده طريق المسؤولية والوفاء، ويُبقون أثره حاضرًا في كل موقع يخدمون فيه وطنهم ومجتمعهم، وإنّ في صلاح الأبناء عزاءً كبيرًا، وصدقةً جارية تمضي مع الفقيد إلى حيث رحمة الله الواسعة.
اللهم اجعل عمل عبدك الصّالح محمد بن علي العقلا شافعًا له، وذكراه العطرة نورًا دائمًا، وابتسامته التي عرفه النّاس بها، والتي لا تفارقه، بابًا من أبواب رحمتك.
اللهم عوّض الوطن فيه خيرًا، فقد كان ابنًا وفيًا للوطن، وأستاذًا ملهِمًا لطلابه، ورجل دولة يفيض حكمة ولطفًا، ووجيهاً قريبًا من الناس، لا يرد سائلاً ولا ينسى صاحب حاجة.
لقد رحل فقيدنا بجسده، وبقي بيننا عبق سيرته، كضوء الشّمس حين تغيب، يختفي وجهها، ويبقى نورها ممتدًا في الأفق.
تولّى وأبقى بيننا طيبَ ذكره..
كباقي ضياء الشّمس حين تغيب..
ولم يكن مستغربًا أن يقول عنه محبّوه يوم وداعه:
«كان رحمه الله ملءَ السمع والبصر كرماً وجوداً وتواضعاً ومودة، ومثل هذا يُفقَد ويُبكى عليه. لكنه خلّف ذكرًا حسنًا وسمعة طيبة واسعة، نحمد الله عليها».
لكَ اللهَ يا أبا طارق، فقد كنتَ من كبارِ الأثرياء دِينًا وخُلُقًا، ومن أعظمِ القدوات سلوكًا سمحًا، ومثالًا متفردًا في منهج الحياة. عرفناك نقيَّ السريرة، طيبَ العطاء، عنوان لمكارم الأخلاق،لا تَتوانى عن نصرة محتاج، أو مواساة ملهوف. وبرحيلك يفقد الناسُ رجلاً اتسع قلبه للجميع، وترك بصمة لا تُنسى في كل موقع وطأته أقدامك.
وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
تعازينا الصّادقة ولأسرة العقلا كافة، ولطلاّبه وزملائه، ولكل من عرف هذا الرّجل الكبير وخسره.
جبر الله قلوبكم، وألهمكم الصبر والسكينة، وحفظكم من كل سوء ومكروه.
** **
- سليمان بن عوّاض الزّايدي