Culture Magazine Monday  11/06/2007 G Issue 202
فضاءات
الأثنين 25 ,جمادى الاولى 1428   العدد  202
 

ذات العواد الفكرية وإبدالاتها 3-5

 

 

2-2-2 هتلر:

ويضيف حديث العواد عن هتلر وإعجابه به مزيداً من التأكيد والتدليل على الوظيفة التي يمثلها الزعيم في فكر العواد، وظيفة الفرد الذي يحدث التحول، ويصنع وحدة الجماعة ونهضتها وعقلها الحر. وهو فرد يتصف بالبطولة التي لا تغدو - في حديث العواد - مهارة قاصرة على القيادة العسكرية، ولا حذقاً في الإدارة والتنظيم، بل ذلك كله مضافاً إليه عبقرية الفكر، وقوة الشخصية، والإنسانية، والوطنية. إنه (بطل) بالخبر والحكاية أكثر منه بالواقع ومجريات الحقيقة، أو هو زعيم كما يشتهيه فكر الكاتب، ويحلم به، لأن الحقيقة - حتماً - ستحوج إلى شيء من الاحتياط في المديح، أو إفساح حاشية ما لما يشبه - في الأقل - اللوم أو يقارب الانتقاد.

إن العواد يسوق حديثه عن هتلر - كما ساقه عن موسوليني أو المتنبي أو غيرهما - مساق الخبر الذي يحيل على ذاته لا على الواقع، فهو يصنع الواقع الذي يخبرنا عنه، مما يجعله واقعة حكي، بالمنطق الفني للسرد، حيث تكتفي الحكاية بذاتها، لأن المهم فيها ما يُنقل ويروى إذا ما تمثلنا - بهذا الصدد - قول بورخيس: لست أدري ما إذا كان الأمر قد حصل بالفعل، ما يهم اليوم هو أن هذه الحكاية قد رويت، فأعتقد في صحتها.

هناك لغز عصي يبدأ العواد بإحاطة هتلر به، وذلك من خلال وصفه بالجاذبية وما أحدثته (الهتلرية) ولا تزال، من شغل لأذهان العالم في الغرب والشرق، وصعودها القوي، (حتى أصبح العالم كله متطلعاً لمعرفة كنه هذه الحركة وما ترمي إليه).

إستراتيجية اللغز تعبير عن العجب وصناعة للإعجاب، فيما هي رغبة في تشارك السؤال وتقاسم الإثارة المتولدة عن حس غير عقلاني بالدور الفردي للبطولة، وتمهيد لتقبل مفتاح فعلها في الجماعة: القومية، واستثمار حماس الشباب، وحسهم الوطني... وهي مفاتيح أثيرة في وعي العواد.

ويتتبع العواد بروز أفكار هتلر من الحلم القومي بوحدة ألمانيا واستعادة كرامتها التاريخية، إلى مقامه بفينا، شاب فقير في مدينة صاخبة باهظة الثراء، تتكدس السلطات فيها وحدها، ويثير أساه بؤس العمال فيها. ومن ثم تبرز فكرة الإصلاح الديموقراطي الاشتراكي، وتتولد الكراهية لليهود لأنه رأى فيهم ما يخرب الاقتصاديات، وما يخرب الأهمية القومية للفرد، ويرى في التعليم والمدارس السبيل لتوحيد ذهنية أبناء الدولة توحيداً دائماً. وقد اقتضاه ذلك أن (كافح... ونشر مبادئه بقوة حتى اعتنقها الشعب الألماني بأسره) فانبعث فيه روح الحياة من جديد.

هذا الكفاح الذي صنع بطولة هتلر وزعامته، هو كفاح فكري وثقافي - كما بدا من حديث العواد - لأنه يحيله على الأفكار وتولدها في شكل قناعات مبررة إنسانياً ووطنياً. وهي أفكار لا تؤشر على الأنانية وشهية الاستبداد والتسلط بقدر ما تؤشر على التضحية وروح المسؤولية وحس الانتماء؛ أي المؤشرات التي تدعو العواد إلى الشعر والكتابة والتأليف، وهي الفعل الثقافي الذي كان هتلر ممثلاً بوزير دعايته يتحسس مسدسه كلما سمع به !. والنتيجة - إذن - هي أن العواد يرينا في هتلر ما يريد أن نراه فيه هو، من البطولة الثقافية القومية والوطنية، التي تجعل من هتلر ذاتاً أخرى للعواد، برغبات ثقافية.

2-2-3 المتنبي:

لا يختلف ما يريده العواد من الحديث عن المتنبي عما حدثنا به عن (موسوليني) و (هتلر)؛ إذ يسوق حديثه عنه مساقاً ذاتياً، مفعماً بالتبجيل والتعظيم، لا يرى فيه الشعر والموهبة فقط، بل يرى من السلوك والأخلاق ومن توافر ظروف الصراع والتغالب، ما يهيئ الإعلاء للمتنبي بوصفه ذاتاً تنتصر لرغبة وتقاسي في سبيل إرادة، تنتصب دونها العوائق وتباعده عن بلوغها الشخصيات الضدية والظروف المعاكسة.

ومناسبة حديث العواد عن المتنبي، متصلة بدلالة الحديث نفسه في رسم العلاقة بالمتنبي من زاوية قومية.. فالمناسبة هي ذكرى مرور ألف سنة على وفاة المتنبي (354هـ) التي تحل في العام التالي لكتابة المقالة (1354هـ).. وهي مناسبة تؤول إلى دعوة من العواد إلى الأمة العربية للاحتفال بهذه الذكرى، لأن المتنبي شاعر (تفتخر به الضاد من أقصى حدود بلادها إلى أقصاها بلا تفريق).. ولهذا السبب يغدو المتنبي حكاية، وينصب الحديث عنه مصب الحكاية للبطولة القومية الثقافية المتاخمة لطلبه المجد ورغبته في الملك.. وهي بطولة يحفزها التميز الشخصي وتغذوها عبقريته الإبداعية فتصطدم بالمنافسين والمناوئين الذين يذكون في الحكاية معاني المغالبة والتحدي، لتغدو بطولة المتنبي بطولة الذات في مقابل خصومها وأضدادها، وهم خصوم وأضداد ينتهون إلى الهزيمة (حتى وإن قتلوا المتنبي؟!) (فمن أية ناحية من نواحي المتنبي أردت البحث لا تجد إلا عظمة وتفوقاً ينتهيان بغلبة وانتصار، وليست تلك الغلبة وذلك الانتصار، اللذان ينتهي بهما تفوق المتنبي وعظمته إلا انتصار الفن وغلبة الحيوية الشخصية التي تتمم الفن أو تبرزه مجسماً). وبقدر ما تتصف شخصية الزعيم بالتعالي عن المجموع، والتفرد فوقه، ومن ثم امتلاكه، وقيادته، والتأثير فيه، فإن شخصية المتنبي - في حديث العواد عنه - تأخذ صفات الزعيم أكثر من أن تأخذ الصفات الوظيفية للتسلية والإمتاع الفني في الشاعر.

وصفات المتنبي (الزعيم) - من هذه الوجهة - تركز على حضوره المقترن بالجماعة تقارن الخضوع له والتعلم منه والإعلاء له من جانب، وطغيانه واتساعه بسبب تفرده من جانب آخر.

فهو (معلم عظيم) و(نجم ساطع خفاق) و(هو الشاعر الوحيد الذي لقحت أراؤه وأفكاره ومعانيه منتجات الأدباء) (عبقري في قراراته) (درس طبائع النفوس... ولمس أدق أسرارها) (كان يفيض حوله كبرياؤه الشامخ وترفعه النبيل... وعزوفه عن سخافات القراء الصغار) بل يؤول (مديحه لبعض الملوك) من الضدية للزعامة إلى التدعيم لها، لأنه (هو نفسه كان طالب ملك فسبر أغوار هؤلاء بهذه الوسيلة).

لنقل إن العواد لم يكن يتحدث عن المتنبي من خلال التاريخ أو الحدث والوثيقة، بل من خلال الذات، وأن تتحدث عن شخصية من خلال ذاتك يعني أنك تتماهى فيه أو في ضده، فيؤول، في ترويجك إياه، إلى ذات أخرى لك تشاركها رغبتها التي صارت بها ذاتاً في حديثك، وهذا هو موقع المتنبي في حديث العواد عنه؛ أي الموقع الذي يصطف إلى جوار موسوليني وهتلر، من الوجهة التي تختصر المجموع في فرد، فيه تنتهي آخرية الآخر، وبه تقوم الرغبة وتتحقق!.

2-2-4 الدهماء - المتوحشون:

من اللافت للانتباه أن يحضر في خطاب العواد، وبإزاء الإعجاب بزعماء من الطراز المذكور أعلاه، الإشارات المتكررة إلى عامة المجتمع، أو إلى الشعوب الفقيرة والجاهلة، من خلال صفات وسياقات تقفهم في مقابل الزعيم الفرد، وفي ضدية للمفكر (العبقري) والأديب (الراقي) وتسجنهم في دائرة من القصور والعجز والحاجة التي تجعل الزعيم السياسي والفكري، وبالمعنى الاستبدادي الأحادي، ضرورة يتعلق بها وجودهم لا وجوده، وترهنهم له، وتعيلهم عليه، وتحميهم به، دون أن يعنون له إلا هذه المهمات الصعبة!، وهي، حقاً، السرير الذي يلد عليه، كما قال فرويد.

وبوسعنا أن نورد أمثلة هذه الرؤية لدى العواد من سياقات الصفتين التاليتين:

2-2-4-1 الدهماء:

وتعني هذه الصفة في اللغة (العدد الكثير) أو (جمع الناس وكثرتهم)، وهو المعنى المقابل للتفرد والامتياز وما يتصل بذلك من مكانة تعلو وقيمة تسمو، لأن كثرة الشيء، ترخصه ووفرته تقلل الحاجة إليه.. ومن ثم لا تبقى صفة (الدهماء) بريئة ومحايدة في سياقات التزكية للفرد النوعي بمعنى ما.. بل إن التلفظ بها لا يتم من خلال الفرد الذي يتعالى عليها، فالعامة لا تسمي نفسها (دهماء).. وهذا هو المعنى الذي ترد به لدى العواد.

إنه يحدثنا - مثلاً - عن (أدب التقليد) فيزري بالصور المنسوخة والأدباء الناسخين والشخصيات الضئيلة والأدب الشائع... بحثاً عن الابتكار والجدة والتفرد والشعور الممتاز، وهي الندرة ومن ثم القيمة (فمن وراء هذا الشعور تعبير مصور قدير يتعالى عن الطبقة التي تشارك الدهماء في مداركها وفي التفافات أذهانها).. أو يقرن (الدهماء) برخيص الأمور التي لا تفلح فيها النفوس العظيمة الغنية بمواهبها المكنوزة، وإنما (تبرق هذه النفوس وتلمع وتعطي أحسن الإنتاج إذا وجهت للعظائم والمسائل الإنسانية الكبرى العامة الواسعة).

وبالطبع فإن العواد لا يضع نفسه في خانة الدهماء، ولهذا يتبرم منهم شاكياً، بقوله: (كان لغط الدهماء... واكتظاظ المكان بهم على غير نظام حائلاً بيني وبين رؤية الملك وسماع الخطباء الذين حيوه).

2-2-4-2 المتوحشون:

وتأخذ صفة (المتوحشين) قدراً أعلى من زراية العواد واحتقاره، ويمتد موصوفها - لديه - إلى دائرة صفات أخرى من قبيل: (منحط في نفسه... متأخر في محيطه، وتربيته، وأحوال معيشته، وصغر آماله، ونضوب أمانيه، وانحلال أخلاقه، وانحداره إلى همج متغور في همجية النفس والعقل لا يسمح له بالصعود إلى المكان المشرف على رياض الحياة).. وتتنوع سياقات الإشارة إلى هؤلاء (المتوحشين) و(الهمجيين) من البشر عند العواد.

ومن أبرز هذه السياقات أن يجعلهم في مقابل من يصفهم ب (العالم المتقدم) و(الأمم المتحضرة) و- في أحيان - (الاستعماريين) في معرض مجادلة افتراضية لهؤلاء من زاوية التقريع بالمنطق الحضاري والتقدمي، والاحتجاج على ظلم تأييدهم ومعاونتهم - مثلاً - لاغتصاب فلسطين (فإذا لم تفعل السياسة التي قيل عنها إنها آخر عصارة الأدمغة التي تربعت على مقاعد عصبة الأمم في جنيف ما أخذت على عاتقها تنفيذه من خطط العدالة، ترى ماذا يُقال عن نزعات المتوحشين في الإسكيمو وأواسط إفريقيا؟!).

وما يُقال بشأن العدالة يُقال بشأن الفكر والأدب، وهو سياق آخر يشير فيه العواد إلى من يصفهم بالمتوحشين والهمجيين في معرض ربطه الأدب بالنفس الإنسانية، وتوليده من ذلك معنى مطلقاً للرقي، لا ينتجه إلا الراقون.. لذلك - يقول -: (فلا ترج من الزنجي والبربري وساكن الإسكيمو وما إلى هؤلاء من الهمجيين والمتوحشين أن يكون مفكراً أو أديباً راقياً لأنه منحط في نفسه).. وهو السياق نفسه الذي يستدل فيه العواد - في موضع آخر - بانتقاد (شاب أسود) - كما وصفه - الحجاز، بأنها (أمة مهملة)، فقد اتخذ العواد من قائل هذه المقولة عامل تعظيم وتقوية لمدلول الإهانة فيها؛ فمضى يردد: (نعم أسود البشرة، سوداني الجنس، من القارة السوداء، من القارة المظلمة، من إفريقيا، من بلاد التوحش... ولكنه مطربش، ويرتدي حلّة أفرنكية، وهنا السر).

وما يهمنا، في استخدام العواد لصفة (المتوحشين) و(الهمجيين)... هو الدلالة التي صنعها لهم بهاتين الصفتين صنف آخر من التوحش والهمجية بدعوى العقل والعلم والتقدم، وبمزيد من إعانة الجهل والفقر و- أحياناً - الفوضى والحروب عليهم، لتبرير تبعيتهم له، واستخدامهم، والاستئثار بخيراتهم.. وهي الدلالة نفسها التي تصدر عن وعي الزعيم، في استبداده المفارق للعقل، وتسلط أنانيته، وصناعته للعنصرية والعصبية بالقدر ذاته الذي يصنع به التجهيل والحاجة ليكون في موقع الأب والمعلم والمخلِّص والقائد الذي يختصر الاختلاف في أحاديته والمجموع في فرده!. ولا شك أن سيكولوجيا التسلط وسوسيولوجيا الاستبداد تلتقي في الكشف عن هذه المعاني، مع الفكر النقدي لمثل (طبائع الاستبداد) عند عبد الرحمن الكواكبي، ومتوالية المناهج والأفكار التي فاضت بها الاتجاهات المختلفة في نقد التنوير، وما بعد الحداثة، وما بعد الكولونيالية... بحيث اتسع الوعي إلى ما يدعم الأهداف الإنسانية للحرية والعدل، وما يضيء آليات الثقافة وباطنها اللا واعي باتجاه الكشف عن العمى الثقافي الذي يحجب أو يحرف النوايا الحسنة التي لا يختلف فيها العواد عن العقاد، ولا ديكنز عن وردزورث، أو التي كان تطور فكري مثل التنوير - كما برهن هوركهايمر وأدورنو - متكأً لمثل النازية.

د.صالح زيَّاد - الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة