Culture Magazine Monday  11/06/2007 G Issue 202
فضاءات
الأثنين 25 ,جمادى الاولى 1428   العدد  202
 

وطن بلا مزايدات..... سعوديون خارج السوق
اللحظة الشعبية حين تفلسف علاقة الإنسان بالتراب

 

 

منذ أن هبت رياح التغيير في منطقتنا الشرق أوسطية والمملكة تحديداً حدث إعادة تأويل طوعية وقسرية لمفاهيم وثوابت ظلت قيد اللامبالاة أو التحفظ ردحاً غير يسير، حتى قُيض لها من يعيد إنتاجها كأدبيات وخطابات مثلت أطراف مشهد محتدّ التجاذبات، منها ما شاغب الثقافة، ومنها ما طمح إلى انقلاب جذري حاد ضد ثنائية التلقي والتأويل لهذه الثقافة، فكان من المسلم به أن تتخذ هذه الدورات الإنتاجية الجديدة لهذه المفاهيم شكلاً لا يتماس مباشرة إلا مع أجندة تغييرية تماهت إلى حد فاضح مع طموحات تخزبية تأخذ في حسبانها حتمية المواجهة ضد قوى مناهضة تهدف إلى إسقاطها أو النيل منها في مشهد استقطابي محموم يذكر بإرهاصات الانتخابات البرلمانية في الدول الديمقراطية.

لهذه التفاعلات إسقاطاتها الفريدة على التجربة الإصلاحية السعودية بشتى أطيافها الأيديولوجية المتنافسة على توجيه المؤسسة الاجتماعية، بل والطامحة إلى الاستئثار بقيادتها لبسط النمط الذي تبشر به أجندتها الإصلاحية، والذي زاد من غلوائها هو التنافس اللاهث على التمكن من المنابر الثقافية في كل تمظهراتها الإعلامية فازدهر سوق التهم والتضييق الذي يدفعنا للتأكيد أن أحد الفرقاء يحتكر الحق؛ حيث ساعة انضوت العملية برمتها تحت شعارات الوحدة الوطنية وباتت شكلاً من أشكال ستر الجرح ومد الغطاء.

تنفجر في هذا الجو اللاهب مفردة (الوطنية) التي غابت عن اللغة والخطاب الثقافي السعودي وسجلت حضوراً أخذ تجليات على مستويات شعورية متعددة تفسرها العلاقة بين الإنسان والتراب. ومع احتدام الاستقطاب بين القوى الإصلاحية في المملكة تعرضت (الوطنية) إلى شكل من أشكال إعادة التعريف في سبيل إدراجها ضمن هذه الأجندة لهذا الطرف أو ذاك وبمعنى أكثر شفافية تعرض مفهوم الوطنية لأدلجة فجة تعتدي على التعاطي التلقائي مع (الوطن) بوصفه أولاً مادة (كيمياء) باعثة لدلالات حارة غير متكلفة تبث إشعاعاً مضاعفاً في مادة العلاقة التي تؤطر الشعور الوطني وأعني مرة أخرى العلاقة العفوية بين الإنسان والتراب. ولأن لكل كيمياء وتراب قدره وحتميته صار الناجز السعودي وموجوداته ومفرداته مناطة ببحث مستقص اضطلع به نقاد يتكئون على مستندات دينية وأخرى فلسفية نهضت بالتأويل الجديد للوطن لتؤسس لعلاقة صناعية بين الثنائي الأكثر أهمية في المعادلة الوطنية (الإنسان - التراب) سيما أن الموجودات المكانية ذات معدن ترابي، بل الإنسان نفسه تراب. ومن هنا تم اجتراح وتصدير أدلجة (الوطن - التراب) وباتت الدائرة الأوسع والأكثر استهدافاً لغلواء الاستقطاب... فالتراب مجرد من الجارح ولا يجيد حتى لغة الإشارة فكان الحوار من طرف واحد نهض بدور المخاطِب والمخاطَب.

العقد الاجتماعي وليس الثقافي

للإيغال أكثر في تفكيك الوطنية المؤدلجة يجدر بي أن أحرر مفهومي العقد الاجتماعي والثقافي الذي اختار أولهما الفيلسوف جان جاك روسو (أبو الثورة الفرنسية) إرهاصاً لنقله راديكالية على الصعيد السياسي الاجتماعي من الخلط العفوي والقصدي بين (الاجتماعي والثقافي) والزج بهما كمتلازمين في طابور المفردات أكسب إحداهما شيئاً من شروط الآخر بل وأدواره حيث إنهما يعبران عن مؤسستين مستقلتين تمارس كل منهما دورها في إدارة الحراك والاستيعاب والإرهاص التقدمي، ولذا كان روسو شفافاً في انتقاء (الاجتماعي) دون غيره (الثقافي) أو (السياسي) أو (الديني) على الرغم من أن كتابه الآنف هو سياسي على وجه تمامه، ينظر لنظام سياسي وهيكلة حكومة تتفاعل مع قيمة الفرد وتتكامل معها في مشروع عريض من القواعد الجديدة التي تطرح نفسها كخيار اجتماعي لا أكثر صوتت له ثورة الشارع الفرنسي لتأخذ النظرية السياسية مصداقيتها من المؤسسة الاجتماعية وتنال ثقتها كمشروع إنساني مدني جديد يدشن لمرحلة جديدة في فرنسا. ومن اللافت أن روسو وهو في سياق ثورته الحقوقية لم يطرح حقوق (الإنسان) بل باشر وألح على حقوق (الأفراد) بوصف الأولى تحيلاً على الفرد كعنصر ثقافي والثانية تحيلاً على الإنسان كعنصر اجتماعي. فالعقد الاجتماعي لا يستوعب في بنوده ما هو خارج عن الاجتماعي إذ (الإنسان) وحدة ثقافية لا تتماس مع التجاذبات داخل المشهد الوطني بكل لحظاته الشعبية المحمومة والفاترة؛ إذ (الإنسان) دلالة لا تحيل إلى ما هو شعبي والمفردة الأكثر ملاءمة للوصف الشعبي هي (مواطن) وبات من الضرورة الإذعان للقاموس الشعبي والارتهان إليه في اعتماد اللغة غير المؤدلجة كما اعتمدها روسو وهو يعيش لحظته الشعبية في أشفّ تجلياتها.

إن شاهدي على أن الاجتماعي وبظرف خاص هو الذي يحدد علاقته زمناً وكيفاً بالمؤسسات الوطنية الأخرى سياسية وثقافية ودينية وقبلية وغيرها هو أنها المؤسسة الوحيدة غير القابلة لتكيف غير سوي مهما بلغت درجة التجاذب وحدته. والتبدلات الطفيفة التي طرأت على بعض المجتمعات الإسلامية سلباً هي من قبيل المرونة ذات الترددات المتفاوتة، وعليه فالمؤسسة الاجتماعية محكومة بمنظومة شعورية شعبية فطرية تقولب المفاهيم بأدوات مستعملة وجافة في مثاقفتها مع المؤسسات الأخرى إذا الوعي الفردي والجمعي والشعور والتراكم الحسي لهذه المؤسسة يجعل منها كياناً شعورياً مستقلاً يزداد اكتمالاً بالتكثيف الشعوري وليس الثقافي الأعلى نحو فردي وهذا يقضي بأن المؤسسات الثلاث هي مؤسسات وعي بالمعنى المثقف لهذه الكلمة - والاجتماعي هي كيان شعوري بوصفها مؤسسة كمية يجمع بين أعضائها علاقة الكثافة والعدد يُعبر عنها في التعداد السكاني بكلمة نسمة.

إن إعادة تشكيل وعي مؤسسة معتمدة على التراكم الحسي في تقرير موقفها المتغير يتطلب تجفيف المادة الحسية بوصفها مناط التلقي والتأويل وهذا متعذر بسبب ارتباطها العضوي بالفطرة الشعبية في نشأتها الأولى وللتدليل فإن الثورة البلشفية والفرنسية والماوية حركت الحس الجمعي وليس الوعي الثقافي واستثمرت هذا الشعور الكمي وإدارته باستنفار العصب والانفعال وكلها مفردات من المعجم الشعوري أنجزت تغييراً جذرياً تربع عليه مجموعة من المثقفين والمفكرين أدركوا جيداً أن الحس الجمعي مادة عصية على الإزاحة غير أنها قابلة للإدارة والتوجيه.

قد لا يضيف ما استفضت فيه الكثير للراصد الثقافي إلا أني أخلص من هذا المحور إلى أن الوطنية هي ذوق من التعاطي انبسط على مساحة الشعور الجمعي وبات جزءاً عضوياً فيها غير قابل للإملاءات عبر تكييف قسري وغير متفاعل مع تأويلات جديدة للحب والتضحية والإخلاص الحاضرة بكثافة ويجري إعادة صقلها وليس إعادة إنتاجها مع الأزمات الدورية الفعلية أو المفتعلة وإعادة إنتاجها هو ما أسميه بأدلجة الوطنية.

العقد الاجتماعي السعودي

إن تجربة توحيد وتأسيس المملكة تختلف من حيث هي مشروع عن تأسيس غيرها من الدول العربية والإسلامية لجملة من الأسباب يأتي في طليعتها المساحة الجغرافية الهائلة التي انتظمت في عقد الدولة في فترة قياسية استثنائية تشي باستثنائية مشروع التأسيس وأجندته التوحيدية وما انطوت عليه من بنود إسلامية خالصة حققت لها هذه الفرادة من حيث النجاح والقبول والتعاقد الاجتماعي السريع انتهى إلى أن التأمت الفيفساءات ضمن اسم هو الآخر استثنائي ووليد تاريخيته، لم يُجعل له من قبل سمياً وهو (السعودية) وحيث إن المتعذر أو الصعب تسمية بلد في هذا الكوكب تم إنتاج اسم ينتظم أجزاءه خارج العملية التاريخية الحديثة غير (السعودية) التي هي لفظة مقترحة تم دمجها في التاريخ باجتهاد إنساني وليس تاريخياً.

من إبداع مسمى الدولة هو ثورة داخل العقد الاجتماعي يضفي عليه خصوصية شبه مطلقة انتصر فيها العقد على الجغرافي والاجتماعي على خلاف التجارب العربية والخليجية التي لم تنهض من صفر التكوين إلى تمام الدولة إذ كان كيانها السياسي والاجتماعي والقبلي جاهزاً للاصطفاف في سبيل توحيد وإبرام العقد الاجتماعي. فلم يكن لها تاريخ من الفتح والجهاد فكان شرطها الوطني خارج هذه المعطيات على العكس تماماً من (السعودية) التي جاهد مؤسسوها وكان الجهاد والفتح أدوات للتوحيد ومرتهنة بالقدر الجغرافي الممتد فضلاً عن ظروف أخرى يعيها الراصد التاريخي للتأسيس.

إن أداة التأسيس السعودية الاستثنائية إصلاحية أكثر منها تأسيسية ولذا فثقافة هذه الأداة ستنبسط تلقائياً لتتبوأ حيزها القدري والطبيعي في العقد الاجتماعي شأنها شأن أي أداة تأسيس في أي مشروع إصلاح لأي تجربة إنسانية حتى الحداثية منها. فالشعور الجمعي السعودي الذي وعى تفاصيل التأسيس وأدواته أبدى كلية مقبوليته لهذا الخيار الذي يتجلى في الراية السعودية وعلى كل مستوياتها الإيديولوجية التي تنطوي على رموز هذه الأدوات (عبارة التوحيد - السيف - اللون الأخضر) تماهت في عقد الراية انعكاساً طبيعياً لعقد مجتمع تماهى أفراده طوعاً مع هذه الرموز تماهي تقديس لأداة التأسيس ورمزها في الراية وظلالها في العقد الاجتماعي، ومحاولة إعادة إنتاج هذه العلاقات يقتضي بالضرورة إعادة إنتاج سيناريو الوحدة السعودية المتلاحمة وليس مع العقدين المكاني والقدري فحسب بل علاقة الاجتماعي مع هذه المقدسات وعلاقة الاجتماعي نفسه بعقده الاجتماعي، وغير هذا يكون فردياً لإدارة جمعية دونت تعريفها للوطنية في ميثاق الوحدة. والذي يهيمن على هذه العلاقات هي اللحظة الشعبية غير المؤدلجة دينياً شرعياً أو ليبرالياً مدنياً إذ هي الحاسم الأول والأخير لكل تعريفات العلاقات، وناقلة ما أخلص إليه أن كل ما طرحته بشأن التأسيس السعودي وأدواته ورموزه وصياغة عقده تم في لحظة شعبية تشذ في نجاحها عن مثيلاتها كالظاهرة الطالبانية التي تمت في ظرف ديني بحت غير شعبي أو ظاهرة الدولة العلمانية العربية التي أنجزت من ظرف ليبرالي غير شعبي.

إذاً السعوديون كانوا وسيبقون خارج سوق المزايدات وعلى وطنهم حذرين من أن الانطلاق من النظرية الفلسفية النسبية لتعريف الوطني قفز على اللحظة الشعبية السعودية ومن قبيل تعليب المشاعر فاختاروا قدرهم الوطني دون إملاءات إيديولوجية تصدر لهم وجداناً جاهزاً يبدأ تعريف الوطن بنقطتين رأسيتين وينهيه بنقطة آخر السطر.

محمد الهويمل - الرياض hm32@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة