Culture Magazine Monday  11/06/2007 G Issue 202
سرد
الأثنين 25 ,جمادى الاولى 1428   العدد  202
 

قدح من الشاي
نوف الحزامي

 

 

- يا للروعة ما أجمل هذه اللوحة.. انظري إليها..

- إلى ماذا أنظر؟.. كلها أزرق في أزرق..

- لو نظرت إليها جيداً يا حنان.. وتجاوزت النظرة السطحية السريعة.. ودققت النظر إلى تلك الأشياء الصغيرة الجميلة..

لوجدت فيها عالماً شفافاً جميلا.. انظري إلى هذا البحر الهادئ الذي تتكسر أمواجه.. بانسياب.. انظري إلى لونه الفيروزي الشفاف.. يبدو صافياً وطبيعياً..

ثم انظري لهذا الشاطئ الرملي الخالي.. لاتوجد أية آثار لأقدام بشر، ولا أية مهملات متناثرة.. صفاء وجمال خلاب..

كم هو عالم جميل يا حنان.. هل تعرفين.. أجمل ما في هذه اللوحة أنها تخلو من البشر.. لا اثر فيها لأي إنسان ولا متعلقات به.. إنها طبيعة بريئة.. حالمة.. تنساب بتناسق كما خلقها الله..

يا الله.. كم أحلم بالعيش هناك.. ما رأيك يا حنان؟

لا أحد يرد.. تلتفت..

- حنان..؟

كانت حنان تضحك وهي تتحدث مع امرأة أخرى وقدح الشاي في يدها..

تلفتت سارة حولها.. شعرت بأنها كانت تتكلم مع نفسها.. بدت وكأنها بلهاء.. فاحمر وجهها خجلا..

عاجلتها صاحبة المنزل..

- قدح من الشاي..؟

- آه.. الشاي.. لا.. شكراً.. يكفي ما شربته..

ابتسمت السيدة وسكبت لها قدحاً آخر..

لم تكن لديها القدرة على المماطلة.. ولم تستطع أن تقول (لا) مرة أخرى.. فاستسلمت لها وتناولته.. كان الشاي ساخناً جداً..

نظرت إليه.. الأبخرة تتصاعد منه.. في هدوء.. تتراقص بوضوح أمام عينيها.. لترتفع إلى أعلى.. وترتفع.. وتدريجياً.. تبدأ في التلاشي.. حتى تختفي تماماً..

أخذت تنظر إليها وهي ترتفع بهدوء.. بدت لها خيوط سرابية شفافة.. تحاول أن تخترق هذا العالم.. وترتفع إلى أعلى.. لكنها لا تقاوم.. وتموت بعد ولادتها بقليل..

كانت المياه هادئة وأكثر صفاء من العادة.. تنعكس عليها شمس ذلك الصباح المشرق فتبدو من بعيد كسائل ذهبي غريب..

كانت النسائم تهب من آن لآخر.. فتتحرك صفحة الماء عندما تتساقط عليها بعض أوراق الشجر المطل من سور منزلنا..

وتدور الأوراق حول نفسها وهي تطفو بانسياب.. فتبدو لي كقوارب تاهت في المحيط..

وعندما أقرب وجهي من سطح الماء.. وأنفخ فيه بعبث.. تتكون بعض الأمواج الصغيرة.. وتدور الأوراق بقوة.. فيخيل إلى أن عاصفة كبيرة قد هبت وعصفت بتلك السفن..

كنت أستمتع بذلك كثيراً.. وتخيل أنني فعلا أمام بحر كبير يتهادى فيه أسطولي من السفن (الورقية).. وتحلق حولي طيور النورس البيضاء.. حتى إني لأشتم رائحة نسيم البحر فعلاً..

ولكن.. ما أن يراني أخي مساعد ويصرخ علي.. سارة!!.. ما الذي أخرجك إلى الشارع؟!.. هيا عودي وابتعدي عن هذه المياه الملوثة!

حتى أفتح عيني جيداً.. لأرى.. أني لم أكن سوى أمام بركة صغيرة من المياه التي خلفتها الأمطار في شارعنا الذي لم يرصف بعد.. فأسرع بالابتعاد لأدخل المنزل، وأنا أرقب سيارة قادمة من بعيد لتسير فوق بحري الجميل..

أوه.. لقد بدأت الأبخرة تقل بعض الشيء..

هدأت ولم تعد بقوة فورانها الأول.. يبدو أن شيئاً ما يقتلها..

- سارة.. لم تشربي قدحك.. هل تريدين مزيداً من السكر؟

- لا.. شكراً.. سأشربه..

عندما كنت في الصف الأول.. طلبت منا مدرسة الرسم أن نرسم الصحراء..

أذكر أني أخرجت علبة ألواني الخشبية من حقيبتي بحرص كيلا تتساقط الالوان..

وفتحت أول صفحة من كراستي الجديدة.. ورسمت بعض الكثبان الرملية الصفراء..

ثم أمسكت اللون السماوي.. وبدأت لون السماء الصافية.. لونتها كما كنت أراها حين نذهب في نزهة للبر.. لونتها باللون السماوي حتى نقطة التقاء السماء بالأرض.. أو.. الأفق..

ولا أنسى.. كيف حملقت في وجهي (أبلة البندري) يومها بغضب - وكانت دائماً غاضبة - وصرخت..

- ما هذا؟؟.. كيف تجعلين السماء تلتصق بالأرض أيتها الغبية؟!

وقفت مذهولة تماماً.. ونظرت إليها غير مصدقة.. وكأنها أمامي اليوم.. الآن بمفرق شعرها المستقيم والدبابيس اللامعة التي تنتشر على جوانب رأسها وعينيها الناريتين اللتين توشكان أن تحرقاني بنظراتهما الغاضبة..

انكمشت في مكاني من شدة الخوف والخجل..

وسألتها بأدب وأنا أخنق دموعي الخجلى وصوتي يرتجف وسط ضحكات البنات..

- إذاً.. كيف أرسمها يا أبلة؟

ثم تابعت بوجل..

-.. لو سمحت؟

عندها.. مدت يدها بفظاظة.. ومزقت الورقة من الكراسة بكل ما تملك من عنف.. ثم أمسكت القلم الأزرق بقوة.. ولونت الجزء الأعلى فقط من الصفحة.. ثم تركت نصف الصفحة فارغة.. وخطت بسرعة بضعة كثبان رملية في أسفل الصفحة.. وقالت وهي ترمي قلم التلوين على كراستي بقوة..

- هكذا تكون الرسمة.. السماء في الأعلى.. وليست ملتصقة بالأرض، كما في رسمتك المضحكة!

لم أعرف يومها كيف أشرح لها أن هذا هو الأفق.. نقطة التقاء السماء بالأرض.. ولم أقل لها: إني أشاهد الصحراء هكذا..

ولم تكن لدي الجرأة لأقول لها: إني لم أشاهد في حياتي فراغاً أبيض عجيباً بين السماء والأرض..!

كل ما فعلته.. هو أني ألتفت حولي.. فوجدت كل التلميذات قد رسمن مثل رسمتها باقتناع..

عندها صمت.. وأيقنت أني ربما كنت أشاهد السماء بطريقة مختلفة..

نظرت إلى القدح..

لم يبق سوى خويطات بسيطة.. تترنح بضعف..

لقد بدأت الأبخرة تتلاشى تقريباً.. ولم تستطع أن تميزها إلا بصعوبة..

إنها ترتفع بضعف.. لتلتحم بالهواء.. يجب أن تتلاشى..

لأن حرارة الهواء هي السائدة.. هي الأكثر.. هي المحيط الذي مهما جنحت فإنها يجب.. أن تنصهر فيه..

لتصبح جزءاً منه..

عندما كان خالي سليمان - وهو خال والدي في الواقع - يأتي لزيارتنا كان دائماً يحضر معه بعض الحلوى.. التي يحضرها لنا من البلدان التي يزورها في رحلات عمله.. وما أن نراه حتى نتزاحم للسلام عليه وتقبيل رأسه..

وفي الحقيقة.. ورغم أنه كان رجلاً طيباً وأحاديثه شيقة، إلا أن ذلك لم يكن سبباً للترحيب فيه بقدر ما هو تطلع وتشوق لما يحمله من حلويات..

ذات مرة.. أحضر معه علبة حلوى جميلة.. أسرتني العلبة بجمالها منذ أن نظرت إليها..

كانت العلبة المعدنية البراقة ذات لون أخضر فاتح.. وكان غطاؤها المستدير محاطاً برسومات دقيقة لأزهار برية بيضاء وصفراء..

وفي وسط الغطاء.. كانت هناك صورة لفتاتين صغيرتين تجلسان وسط الحقول الخضراء الممتدة.. وتقطفان بعض الأزهار البرية المتناثرة بقربهما..

أخذت أتأمل تلك الصورة الجميلة.. وأتخيل جمال المكان الهادئ..

فأشعر بالريح تداعب شعري.. وأشتم رائحة الأزهار وعبق الأعشاب النجية..

حتى أحسست أني أسمع صوت تهامس الفتاتين..

تساءلت يومها.. ما الذي يمكن أن تقولاه لبعضهما.. ما الذي يمكن أن تقولاه في أحضان هذه الطبيعة.. وأي كلمات يمكن أن يفكرا بها وأمامهما هذه الحقول الجميلة.. وهذه السماء الصافية..

ربما هما يمتدحان هذا الجو الجميل.. في هذا الصباح المشرق..

أو ربما يقارنان عدد الأزهار التي جمعتها كل منهما في طرف ثوبها..

أو ربما يتهامسان بسر لايجب أن أعرفه.

وأخذت أفكر.. وأفكر.. وقضيت وقتاً وأنا أتأمل هذه العلبة الجميلة.. حتى أني وضعتها تحت سريري.. وأخذت أنظر إليها وأتأملها كل ليلة.. لأحلم بها..

وأتخيل أني أجلس في ذلك المكان مع الفتاتين..

ولكني لم أستطع معرفة السر الذي تتهامسان به..

لأن أمي قامت برمي العلبة ذات يوم دون قصد..

أذكر أني أخذت أبكي طويلاً.. حتى اضطرت أمي لشراء علبة أخرى لي.. لكنها لم تكن مثلها..

كانت حمراء.. بخطوط ذهبية عريضة.. وكلمات ملونة سخيفة..

لم تكن فيها حقول خضراء.. ولا زهور برية.. ولا فتاتان لهما ظفائر جميلة.. لا سر أتساءل عنه..

لذا قمت برميها بنفسي هذه المرة.. ولم أبك بعدها على علبتي الخضراء الجميلة..

نظرت مرة أخرى إلى القدح..

لم تعد هناك أبخرة.. لقد اختفت تماماً..

استسلمت الخيوط السرابية.. وتلاشت.. ولم تعد تقاوم..

- سارة.. هل تسمعيني؟

- أنا؟.. نعم.. أسمعك.. أسمعك جيداً..


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة