Culture Magazine Monday  19/03/2007 G Issue 191
فضاءات
الأثنين 29 ,صفر 1428   العدد  191
 
رفيف
دروب بالمقلوب
د.فاطمة الوهيبي

 

 

(طول عمري مستغيثة ولابسة دروبي بالمقلوب!!).. هكذا افتتحت نصاً أقبض من خلاله على بعض ذاتي، صدمتني العبارة بلاوعيها الطافر هنا فوق جفاف النص والسياق. رحت أتأملني من وراء العبارة، وأتأمل كيف تكتبنا اللغة رغماً عنا حتى لو كان بالمقلوب!! ما الذي جعلني أكتب (لابسة دروبي بالمقلوب) فكيف تُلبس الدروب وبالمقلوب؟ واصلت الكتابة على الرغم من صدمة ذاتي القارئة من ذاتي الكاتبة، ولم أغيّر شيئاً. فضلت عفوية الوعي ووحشة التكوين على عقلانية التلقي وصرامة القارئ فيّ، فهذه الجملة هي التي عبرت عن حالتي ووصفتني الوصف الذي لا أدري بالضبط من أين طفر إلى قلمي، ربما جاء من اللاوعي المبطن بالتعب والألم والمرارة. يووه المستغيث يلبس ثيابه بالمقلوب، وحسب الطقس الدلالات أبين من أن تشرح. لكن أن ألبس دروبي بالمقلوب، وأن يمضي العمر كله استغاثة فتلك دراما لم أدر كيف أمكن اختزالها في هذا التعبير.

تخيلوا لو أن رجلا مثلما يرمي شماغه أو غترته على كتفه ويمضي، أو مثلما نقول بالعامية (ينسف) شماغه على كتفه ويمشي دلالة الاستغراق والجد في المشي والتخفف مما لا داعي له من زينة أو لباس، تخيلوا شخصا يرمي دربه على كتفه ويمضي! إذاً كيف؟ وإلى أين؟ وعلى ماذا؟ أن تمشي بلا درب وقد انتزعته من تحت قدميك ورميته فوق كتفك يعني إصرارك على رفض الدرب وإصرارك على وجود درب آخر حتى لو كان فراغ مكانه كارثة مميتة بحد ذاتها. إنه مثل صدع الزلزال في الأرض: لا هو من الأرض ولا هو من الخارطة القديمة، إنه حضور فادح لا يمكن تجاهله، هكذا إذا يبدو من (ينسف) دربه على كتفه ويمضي!! أريد أن أنقب أكثر أن أحفر أعمق تحت هذا الكلام، يقول بريوزي: (إننا نخلق استعارات للتعبير عن تجربه داخلية للعالم منبثقة من كارثة إدراكية).

ما الذي تفصح عنه (لابسة دروبي بالمقلوب) من دلالات كارثية إذا؟ من نافلة القول إن العبارة تكشف عن حالة عوز يشارف على الموت (الاستسقاء إشارة إلى مشارفة الموت عطشًا) وحينما نستعيض عن الملابس بالدروب فنحن نكشف عن عوز مضاعف، عن عري لا تستره الدروب المقلوبة! ولكن المفارقة تكشف عن الاختبار والإرادة البشرية وهي كامنة في اختيار حر هو المضي في الدروب والمواصلة في درب مهلك.

كما أن الاستسقاء خيار ولبس الدروب بدل الثياب خيار، ولبسها بالمقلوب خيار، كلها خيارات تدل على المواجهة وإرادة العيش، وتكشف عن غريزة بقاء قوية تناضل من أجل أن تعيش حتى في الخيارات الهشة والهزيلة.

ولكن أعمق بعد كارثي في هذه الدلالة لبس الدروب (سواء بالمقلوب أو بالعدل) إن امتداد الدرب هزيل وأضأل من امتداد البصر والبصيرة بحيث إن طائلة الإرادة البشرية يمكنها أن تطويه كشال أو تلبسه كثوب مفصل على قدر القامة.

ويا للعوز كيف يمكن للدرب ألا يكون منفتحًا على إمكاناته اللانهائية، على ممكناته الفرحة وعلى احتمالات الصدف والدهشات والغيب المنتظر!! كيف أمكن للدرب أن يصبح مكشوفًا كرداء لا يخفي تفاصيله ولا يحتفظ بممكناته؟ أي فقر أصاب الدرب فتضاءل وانطوى في التوائه واكتفى بكونه مجرد رداء مقلوب؟ أي ملل وأي استنفاد تخفيه العبارة؟ وأي حنق وأي انتظار مكبوت يعجل بالفرج في خطوة الاستغاثة الأخيرة؟ أي وعي أو لا وعي جامح طافر فوق جفاف النص والسياق؟ وأية رأفة ترأف بنا اللغة والشعرية حينما تلّم بعض عوزنا وبعض وهمنا؟!!

***

امبرتوإيكو... التأويل بين السيميائيات والتفكيكية ص158 وفيها يقول إذا كانت الاستعارة لا تتعلق بالمرجع الواقعي ولا بالكون المعياري للعوالم الممكنة.. فإن هناك أطروحة أخرى تقول: (إن للاستعارة علاقة بتجربتنا الداخلية الخاصة بالعالم ولها علاقة أيضا بسيرورة انفعالاتنا.. فحسب بريوزي فإن الاستعارات الخلاقة تنبثق من صدمة إدراكية أي من نمط علاقتنا بالعالم الذي يسبق الفعل اللساني ويحفزه، وبشكل لا يقبل الجدل، نخلق استعارات للتعبير عن تجربة داخلية للعالم منبثقة من كارثة إدراكية.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتبة«7845» ثم أرسلها إلى الكود 82244

rafef_fa@maktoob.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة