Culture Magazine Monday  19/03/2007 G Issue 191
فضاءات
الأثنين 29 ,صفر 1428   العدد  191
 

تمثيلات الآخر في الشعر السعودي (2 - 5)
سعد البازعي

 

 

أشرت في المقالة السابقة إلى أن هناك مرحلتين من مراحل التحديث الشعري في المملكة، بدأت الأولى في الخمسينيات بينما بدأت الثانية بعد ذلك بعشرين عاماً.

في الفترة الأولى، أي فترة الخمسينيات، ظهر عدد من الشعراء الذين تبنوا توجهات شعرية خارجة عن النمط السائد وعلى نحو لم يتكرر في بعض وجوهه إلا بعد ما يقارب العقدين أو ربما الثلاثة عقود.

أولئك الشعراء لم ينالوا ما يستحقون من الاهتمام النقدي أو يسلط عليهم الضوء بشكل عام لأسباب قد يكون الشعراء أنفسهم مسؤولين عنها في بعض الأحيان.

من أولئك ناصر أبوحيمد ومحمد العامر الرميح ومحمد الفهد العيسى، استطاع هؤلاء الشعراء أن يوجدوا خطاباً شعرياً استثنائياً إلى حد كبير في المشهد الثقافي المحلي إما من خلال الشكل النثري الذي تبناه اثنان منهم (أبوحيمد والرميح) بلغته الخارجة على النمط التقليدي، أو بفتح نوافذ ثقافية على الآخر تمثلت في قصائد تؤصل للاختلاف الثقافي على نحو منفتح بل وواضح الإعجاب لدى الشعراء الثلاثة؛ فالغرب، أو الثقافة المختلفة، تمثل هنا من زوايا إنسانية وإبداعية مشرعة على آخر يحمل ثقافة وحضوراً حميماً. ذلك الموقف تكرر في الفترات اللاحقة لكنه جاء مصحوباً بمواقف أكثر شكاً واحترازاً لأسباب منها ما يعود إلى اختلاف الكتاب أنفسهم، ومنها ما يعود إلى الظروف التاريخية التي جعلت النظرة إلى الآخر، وهو هنا الآخر الغربي، مزيجاً من القبول والرفض.

ولو أردنا أن نبحث عن الموقف الأكثر تواتراً لقلنا إنه الرفض، نجد ذلك عند شعراء ظهروا في الستينيات مثل غازي القصيبي ومن ظهر بعده من شعراء السبعينيات مثل الأخوين علي ومحمد الدميني. على أن من الظواهر اللافتة والمصاحبة للتغير المشار إليه تراجع العلاقة بالآخر على مستوى الاتصال الشخصي، فشعراء الخمسينيات والستينيات كانوا أكثر اتصالاً بالغرب من حيث السفر والسكن والقراءة؛ كانت أوروبا وأمريكا أماكن يرتادونها إما بالعمل أو الدراسة، في حين غابت تلك البلاد الغربية أو ضعف حضورها في ثقافة الجيل التالي. وبينما كان الجيل الأسبق أو بعضه يقرأ بلغات أوروبية نجد الجيل التالي ضعيف التحصيل على هذا المستوى وإن هو قرأ ثقافة غربية فإنه يعتمد غالباً على المترجم منه.

ولاشك أن هذه مفارقة في عصر تسارعت فيه وتيرة الانفتاح وتكثف حضور الثقافات الأخرى.

هؤلاء الشعراء سأكتفي من أعمالهم نتيجة لضيق الحيز بثلاثة أمثلة أعتقد أنها دالة بما فيه الكفاية على التحولات التي أشير إليها.

وسيكون المثال الأول من الشاعر محمد العامر الرميح المولود سنة 1930م، في المدينة المنورة لعائلة تنتمي لمنطقة القصيم شمال نجد.

وكان لنشأته في المدينة وما تموج به من أجناس مختلفة تأثيراً على انفتاحه الذهني المبكر على تيارات ثقافية لم يكن من السهل له أن يعرفها، ناهيك عن أن يتأثر بها، لو أن عائلته لم تهاجر من موطنها الأصلي البعيد عن تلك التيارات. هذا مع العلم بأن الرميح خريج مدرسة عرفت آنذاك بدار العلوم الشرعية، لكن ذاك لم يحل بينه وبين العمل في ميادين بعيدة عن القضاء أو التدريس الديني، ومن تلك العمل الدبلوماسي حيث ذهب إلى لبنان موظفاً في السفارة السعودية في بيروت إلى أن توفي سنة 1980م.

في لبنان أيضاً تبلورت شخصية الرميح الثقافية والشعرية وكان في أجواء بيروت في الستينيات والسبعينيات ما يكفي لإنضاج أي موهبة تحتاج إلى الرعاية، فهناك وجد الرميح محط رحال المبدعين من كل أرجاء الوطن العربي وموطن الأفكار والتيارات المختلفة؛ إذ تصب من كل مكان، لاسيما أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

في أجواء بيروت تعرف الرميح على الكتاب اللبنانيين وغير اللبنانيين من العرب المقيمين والزوار وقرأ أعمال أولئك وغيرهم من الغربيين، وفي أجواء بيروت تنفس الرميح هواء حرية تفوق ما عرفه في بلاده وتفسر الكثير مما يفيض به شعره من إشارات وأسماء ودلالات.

في تلك الأجواء أيضاً صدر للرميح ديوان (جدران الصمت) عن دار الأديب اللبنانية سنة 1974 مع عنوان ثانوي هو (شعر رمزي).

وشاء الناشر أن يقدم الشاعر السعودي بالتركيز على ذلك النزوع الحداثي في توجهه الثقافي بشكل عام وشعره بشكل خاص.

فإلى جانب تحقيق الرميح لما لم يحققه شاعر سعودي معاصر من قبل (من شهرة تجاوزت حدود بلاده إلى آفاق العالم العربي)، أكد الناشر على أن في شعر الرميح (عنفوان الأصالة والتفرد بالاتجاه العصري على أجنحة المذهب الرمزي مما جعله يستقطب اهتمام النقاد العرب المعاصرين الذين وجدوا في شعره ما يمثل اتجاهاً تجريدياً خلاقاً جديراً بالدراسة والتمعن).

وضرب على اهتمام النقاد مثالاً بالإشارة إلى أن محمد مندور قال إن الرميح (شاعر ممتاز).

أما معرفته بالشعر الأوروبي فقد جاءت من تفاعله مع (رمزية بودلير ورامبو)، لكن الكاتب حرص على تأكيد أن تفاعل الشاعر السعودي جاء خلاقاً، أي محتفظاً بشخصيته أو بطابعه الخاص.

إننا في ديوان (جدران الصمت) إزاء تجربة شعرية يسندها موقف نقدي يدل على وعي الشاعر وقصده على نحو بات شائعاً في التجارب الشعرية العربية حين يتبنى الشعراء مذاهب نقدية توازي بقدر ما تفسر مذاهبهم في الكتابة الشعرية نفسها.

في آراء الرميح يتبين أن الهم الرئيس هو الدفاع عن التجديد الشعري بوصفه موازياً للتجديد في الحياة اليومية: (لقد جددنا في كل شيء، في كل شيء على الإطلاق، فلماذا لا نجدد في شعرنا، لماذا نحارب الشعر الجديد؟) أما معيار الجدة فهو معيار رومانسي يعطي المشاعر الداخلية أو الأحاسيس الكامنة في النص القيمة العليا بل المطلقة: (القيمة الجوهرية للقصيدة تكمن في جوهرها وفي مضمونها وفي الجهد الانفعالي الذي يبذله الشاعر في خلق قصيدته، وفي قدرته على التأثير في المتلقي المباشر معه، بصرف النظر عن القالب الذي يقدم لنا فيه شعره).

ومن التجديد أيضاً أن يطرق الشاعر موضوعات غير مألوفة في الشعر العربي، موضوعات ربما اتسقت مع الجدة التي تبنتها الحياة العربية، كما يقول (وهو قول ينطوي على مبالغة بينة كما نعلم من الحياة العربية حينئذٍ واليوم). لكن الرميح وفئة من جيله من الشعراء والمثقفين السعوديين والعرب عموماً كانوا حريصين على ذلك الجديد وتأخذهم الحماسة لذلك في معركة رأوا أنها معركتهم في سبيل تطوير بلادهم وشعوبهم وأرادوا من الشعر وموضوعاته أن تكون إسهاماً في ذلك.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتبة«5135» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة