Culture Magazine Monday  19/03/2007 G Issue 191
فضاءات
الأثنين 29 ,صفر 1428   العدد  191
 

متى يحق للإعلامي تمثيل الوثيقة؟
قاسم حول

 

 

الحديث هنا عن الإعلام المرئي، فالوثيقة في الإعلام تعني كشف الحقائق الموضوعية كما هي في الواقع من خلال رؤية واعية لهذا الواقع، وكما يقال في عملية التوليف (إذا أضيفت لقطة إلى لقطة ثانية فإنها تعطي معنى ثالثا) هنا فقط يكمن التدخل في أعطاء الوثيقة معنى جديدا غير ما هو في الواقع وهو ما يطلق عليه تحقيق الدلالة من خلال الوثيقة.

لو افترضنا أن صاحب كاميرا مر على دكان حداد ولم يكن الحداد يعمل فبإمكان المصور أو المخرج أن يطلب من الحداد أن يمارس مهنته حتى يصوره، ولكن إذا رفض الحداد التصوير فلا يحق للمصور أن يأتي بشخص ليس حدادا ويطلب منه الجلوس مكان الحداد والقيام بالمهنة من أجل تصويره.

حدثني صديق مونتير وكان يشاهد مادة مصورة عن المخدرات في المجتمع من أجل توليفها وعندما شاهد المادة المصورة وجد بأن المخرج وهو صاحب الاستوديو كان يلقن فتيات مقابل مبالغ دفعت لهن ليتحدثن كيف قمن ببيع أجسادهن مقابل الحصول على مخدرات وطلب صاحب الاستوديو من المونتير أن يضع مؤثرا بصريا يخفي وجوه المتحدثات.

لم تكن المتحدثات سوى فتيات بريئات يبدو كن في عوز اقتصادي فوافقن على الحديث عن المخدرات مقابل تلك المبالغ ليظهرن في برنامج تلفزيوني في إحدى الفضائيات المعروفة مموهات الوجوه والصوت.

يضيف المونتير قائلا، وكان صاحب الاستوديو يلقن الفتيات ما ينبغي عليهن قوله ويخبرهن أن وجوههن لن تعرض على الشاشة وكذلك الصوت سوف يفلتر ويظهر صوتا مختلفا.

قال صاحبي المونتير: (أطفأت أجهزة التوليف وحملت الأشرطة ووضعتها على طاولة صاحب الاستوديو الذي هو مخرج الفيلم وقلت له هذه جريمة اجتماعية وثقافية في نفس الوقت وأنا لن أعمل مثل هذا البرنامج. ابحث عن غيري يكذب على المشاهدين)

إن أهمية أية قناة تلفزيونية وأية وسيلة إعلام مقروءة أو مسموعة أو مرئية تكمن في كشف الحقيقة الموضوعية متسمة بالصدق.

والمتابع لقنوات الغرب الفضائية يلمس بوضوح صدق العلاقة مع الواقع وبشكل خاص تلك القنوات ذات الهدف الإخباري والوثائقي.

محققو البرامج يسافرون إلى مناطق نائية ويقضون السنوات أحيانا من أجل برنامج واحد، لكن ذلك البرنامج عند عرضه إنما يوفر قناعة في التلقي ويدعو لاحترام تلك المؤسسة الإعلامية وفي هذا يكمن شرف المهنة.

لقد شاهدت يوما فيلما يحمل عنوان (غيتو غزة) لمخرج ألماني من أصل يهودي عاش ثلاث سنوات مع عائلة فلسطينية وكان يسجل حياتهم اليومية وتطور واقعهم الاجتماعي والاقتصادي.

وبعد أن صور آلاف الأمتار وتابع أطفال يكبرون وتكبر معهم مشكلاتهم وأولاد يولدون وهو معهم في المخيم وكان أحيانا ينام في بيت العائلة الفلسطينية ليخرج بعد ثلاث سنوات بفيلم وثائقي هز مشاعر كل من شاهده وحاز على جوائز ذهبية وفضية أينما عرض.

وقال أثناء نقاش الفيلم، مرة كان على سفر ويريد أن يصور العائلة أثناء تناولهم طعام الغداء، وكان بإمكانه أن يجعلهم يتناولون غداءهم قبل موعده لكي يستطيع اللحاق بطائرته، لكنه أصر أن يصور وجبة الغداء في موعدها حتى يحصل على أداء تلقائي.

وبالمقابل عندما كنت في بيروت، وفي عام 1978م عند الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان ومدينة صور كنت متوجها لتصوير المعارك هناك، وفي الطريق شاهدت مخرجا وقد وقف يصور حريق النفايات التي يرميها الأهالي في الطريق لمدينة صيدا وكانت ألسنة النار التي تخرج من أطنان النفايات تطال السماء والدخان يملأ المنطقة وواصلت رجلتي متوجها إلى تبنين حيث تدور المعارك.

وبعد فترة وفي مهرجان سينمائي شاهدت فيلما لزميلي المخرج وهو يتحدث عن الغزو الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1978م وكانت السنة النيران على الشاشة وكنت أعرف أن المخرج لم يذهب إلى الجنوب وما هذه النيران سوى نيران النفايات التي يحرقها المواطنون! فغادرت الصالة حتى لا أدخل في النقاش فأحرج صاحبي وأحرج نفسي.

إن أهمية الفيلم الوثائقي أو البرنامج الوثائقي تكمن في صدقه، ولذلك فهناك من رواد السينما من لا يحبون الفيلم الروائي ويعتبرون الفيلم السينمائي هو الفيلم الوثائقي ومن أصحاب هذه النظرية السينمائي الروسي ديزيغا فيرتوف.

هذا ما يدفعنا للوقوف أمام الحادثة التي تكتب عنها الصحافة هذه الأيام والمتعلقة ببرنامج وثائقي بثته إحدى القنوات الفضائية ويحمل عنوان (بنات الليل) والذي أثير أن الفتيات اللواتي كشفن عن مهنتهن إنما حصل ذلك بدفع أجور لتمثيل دور وثائقي، ولم تكن الفتيات من بنات الليل إنما العوز دفعهن لقبول الظهور في البرنامج.

لا نعرف مدى صحة اللعبة وهذا ما سيكشفه التحقيق، ولكن دعوة للقنوات العربية وهو اعتماد الصدق في نقل الحقائق الموضوعية لأن عدم الالتزام في نقل الحقائق الموضوعية فيه خيانة للمهنة الصحفية والإعلامية ويسهم في تخريب مجتمع يشكل الإعلاميون والمثقفون أهم ركائز البناء فيه وهو بناء الشخصية الإنسانية والاجتماعية.

في السبعينات وبينما كان أحد المصورين يصور الاضطرابات في إحدى بلدان أمريكا اللاتينية توجه نحوه عسكري برازيلي وهو يصيح على المصور: (أقفل كاميرتك)، لكن المصور أصر على تصوير ما كان يجري في الشارع من انتهاك لحق التعبير والتظاهر، مرة وثانية والمصور يعتقد أنه يمارس حق المهنة وشرف المهنة في نقل الحقائق الموضوعية وثائقيا.

صوب العسكري بندقتيه نحو المصور وبدأ المصور يوجه كاميرته نحو العسكري والعسكري يصرخ إذا لم تنزل كاميرتك فسأطلق عليك النار. استمر المصور يصور العسكري صورة وصوتا. العسكري أطلق النار على المصور.

المصور ارتعشت يداه وبقي ماسكا كاميرته وهي تدور ثم خرجت صورة العسكري عن مجال الرؤية ودارت الكاميرا وسقطت مع مصورها.

أحد المصورين من فرق التصوير الأخرى أحاطوا بالمصور وأخذوا الكاميرا ونقلوه للمستشفى وفارق الحياة وتم تحميض المشهد وطبعه وعرض كمشهد واحد في مهرجانات الأفلام الوثائقية وكان المشهد من المشاهد النادرة في تاريخ السينما حيث صور المصور قاتله وصور موته.

ترى كيف يعمد بعض الإعلاميين إلى تزييف الحقائق في إغراء فتيات من اللواتي أضر بهن الدهر وإغوائهن ببضعة مئات من الدولارات لتشوية الشرف وإيقاعهن في بؤرة لم يقعن بها سوى على شاشات التلفزة!؟

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتبة«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

سينمائي عراقي مقيم في هولندا sununu@wanadoo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة