Culture Magazine Monday  19/03/2007 G Issue 191
فضاءات
الأثنين 29 ,صفر 1428   العدد  191
 

الغذامي الشمس
د.جمعان عبدالكريم

 

 

من ينكر قامة فكرية ونقدية كالغذامي لابد أنه خارج التاريخ وخارج الحاضر وخارج المستقبل. فالغذامي (هي) أعلى قامة نقدية أنجبتها الجزيرة العربية منذ الجاهلية حتى العصر الحاضر، لا يكابر في ذلك إلا مكابر، إن النقد لدينا ينقسم قسمين: ما قبل الغذامي وما بعد الغذامي. وعلى الرغم من انني من الذين يفضلون عبارة: فلان من أعظم أو أحد العظماء او من أفضل.. إلخ؛ لأنها أقرب إلى الدقة الموضوعية إلا أن من الموضوعية في شأن الغذامي أن نقول عنه إنه أفضل ناقد عربي في المملكة العربية السعودية حتى الآن، وأملي أن تنجب هذه البلاد فضلاء في الفكر أو في النقد الادبي يكونون بمستوى الغذامي أو قريبين من مستواه؛ حتى أقول عبارتي التي أحلم بها (الغذامي من أفضل قامات النقد الأدبي او الثقافي في المملكة).

ومهما قيل إن الغذامي ليس إلا مستوعبا محترفا للبنيوية وللتفكيكية أو أنه في نقده الثقافي لم يكن إلا هاويا في مقابل ما تمدنا به الدراسات الثقافية المقارنة وعلم النفس الثقافي، مهما قيل ومهما يقال يظل الغذامي الرائد الأول للنقد الحديث في المملكة.

وأعود الى أوراقي القديمة التي فيها الغذامي وكيف عرفت هذه الشمس المشرقة التي تحاول بعض الأكف أو أجزاء من الأصابع اخفاءها، وهيهات فمن هم الذين سيخفون شمسا ضوؤها متكامل.

كنت أدرس في قسم اللغة العربية في أبها في أوائل عام 1409هـ، وقد سمعت قبل عن الحداثة، وعن، وعن، وكان ذلك حافزا لمزيد من المعرفة لا حافزاً لاتخاذ موقف غيري، وقد كنت ملحاحاً في السؤال اسأل أساتذتي وغيرهم عن الحداثة، وعن فلان أو فلان.

وكانت تأتي الاجابات غامضة مبتسرة ملجلجة واحيانا ليس هناك من إجابة. أما أكثر الاجابات فقد كانت اقصائية تحذيرية لماذا؟ انك في أبها حيث الاتجاه الصحوي يكاد يجعل الصحو نائما والجفاف دائما. وفزعت بعد الى مكتبة كلية اللغة العربية، ولكن كل الكتب تتحدث عن الماضي أكثر من حديثها عن الحاضر والمستقبل.

أما الصحف فأقرأ فيها مقالات تهاجم الحداثة وأخرى تكاد تكون كمريم العذراء حين أتت بوليدها تحمله بين ذراعيها فنطق، ولكن الذين حولها كانوا للأسف من غير آذان، ويملك كل منهم أكثر من لسان. معممة أي معممة، وقليلا قليلا بدأت أتلمس الطريق الصحيحة طريق الانصاف والحكم عن بنية لا عن وصاية بحثت عن كتاب الغذامي الخطيئة والتفكير في أبها، وكان بحثي عن ذلك الكتاب آنذاك أشبه بمن يبحث عن شجرة نخل في السويد.

وفي إحدى زيارتي لمكتبة فرع وزارة الصحة في الباحة، وهي قد تكون أفضل مكتبة أسست في منطقة الباحة أسسها الداعية المعروف علي بن ملحة وجدت الكتاب ولكني قرأت في مفتتحه كلاماً يحذر منه وما احتواه وكان التحذير دافعاً أكبر للقراءة، وانتهيت منه ولم أجد ما يدل على مضمون التحذير رغم أني نقدت رواية أكل آدم التفاحة بحكم خلفيتي الدينية، وهي ليست سوى حكاية إسرائيلية ليس فيها ما يدعو الى كل هذا اللغط.

ورجعت كليتي وبدأت أدافع عن كل حداثة تغير من واقعنا الى أفضل وأن نتروى عند الحكم على الناس. كان أحد الأساتذة يقرأ قصيدة على سبيل السخرية لشاعر حداثي يقول ان الشمس نزلت تشرب معه قهوة الصباح، فعلقت وليكن.

مرة من المرات كنت جالسا في مطعم الجامعة مع بعض الأصدقاء أتحدث عن وجوب معرفة الحقائق وعن الحداثة، فتركوني وحدي على الطاولة.

وتشاء الحياة أن أعرف أكثر وأن اقرأ أكثر وأعيد قراءة الخطيئة والتكفير واقرأ كثيرا من كتب الغذامي الأخرى ومقالاته وفي كل مرة يكبر الرجل في عيني بقدر ما يصغر خصومه ويصغرون ويصغرون.

وأتذكر بيت إيليا أبو ماضي:

أو كلما جاد الزمان بمصلح

في قومه قالوا طغى وتزندقا

وقلت في نفسي: من أحب أن ينظر الى رجل من الذهب فلينظر إلى عبدالله الغذامي.

وبعد ذلك كله نرى من يدعي الموضوعية ويكتب تفاصيل التفاصيل عن بائعي الفول، وعن سقائي مكة والمدينة، وعن فتوات جدة، ولكنه عند حديثه عن الحركة الأدبية والنقدية في المملكة يتجاهل الغذامي ووالله لقد قرأت مقاله مرتين وفركت عيني أكثر من مرة؛ هل هذا معقول؟! أين الغذامي وقد ذكر في مقاله تلاميذ تلاميذ الغذامي؟ أين الغذامي وقد ذكر في مقاله بعض مهرجي الصحافة على أنهم من أجيال النقاد؟

لهذا ولأمثاله نقولها صريحة لقد مللنا الوصاية التي كان يفرضها علينا في مجال الأدب والنقد فئة من المتحجزين وكأنهم هم الذين أخرجونا من الظلمات الى النور لا وألف لا. إن النقد والأدب في هذه البلاد لم ينهض إلا بعد أن قوض الله تصوراتهم وعنجهيتهم التي تشبه عنجهية الناقد الانجليزي العنصري الذي يرد البنوية ويخشى أن يكون مستعمرة من مستعمرات باريس وما درى هو ومن يشتهد بقوله إن عصر المستعمرات ولى ولن يرجع، وأننا لا نسمح لأحد باستعمار عقولنا أيضا. أما الفكر والمنهج فليس فيه مستعمرة ولا بريطانيا عظمى ولا غير ذلك هناك عقول وأفكار تناقش وتتحاور في سبيل العلم والرقي والمدنية.

إنني الآن أحلم بألف غذامي وغذامي.. نريد رجالا بمواقفهم نعرفهم بالحق ولا نعرف الحق بهم، ولكننا في الوقت نفسه نقدر عظماء الرجال الذين يسيرون بأممهم الى الخير والرفعة ولا نغمطهم حقهم.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة