Culture Magazine Monday  21/01/2008 G Issue 230
فضاءات
الأثنين 13 ,محرم 1429   العدد  230
 

جناية أدونيس.. الشاعر والظاهرة
علي العائد

 

 

ربما ليس هناك من شخصية أدبية كبيرة مختَلف عليها كأدونيس! فهو اسم معروف للقاصي والداني في عالم الأدب، لكن قلة ممن يقولون بشاعريته الكبيرة يستطيعون أن يرددوا بيتين أو سطرين من شعره. كيف يستقيم ذلك؟.. لا أدري! أضف إلى ذلك أن أحداً لا يشكك في شاعريته، أو يمكن أن يقول إنه ليس شاعراً كبيراً، فما معنى قولك: شاعر كبير،.. إنْ لم تكن تحفظ له حتى نتفة من الشعر؟ فهل مجرد أنهم قالوا لك هو شاعر كبير، رددت معهم ما اعتقدوه مؤمناً ومصدقاً؟... هذا السؤال والأسئلة المشابهة تنطبق على كثير من الشعراء والأدباء، كما تنطبق على كثير من المريدين السطحيين وفق غريزة القطيع الغنية عن الذكر.

الآن، ومع وجود عدد قليلٍ قليلٍ من الشعراء الكبار الأحياء أو المعاصرين، وهم الذين سيخلد ذكرهم بما قدموا من تجربة جمالية منزهة عن الأغراض الآنية التي لن يعترف الفن بغيرها شرطاً، ما الذي يمكننا قوله لنُحيِّد أي تحيز إعلامي، أو سياسي، أو فئوي، أو مناطقي، ليكون لنا حكم محايد يفرز جحافل كاتبي الشعر، الذين يبلغون الملايين في عالمنا العربي، من مدَّعي السهولة في عالم سطحي أناني استهلاكي!. فالشعر، والفن، عموماً، يشترط لخلود الفن مادة أصيلة يعتقها الزمان في ذاكرة الأجيال، ويزيدها بهاء كل ذي ذوق رفيع من أصلاء القراء والنقاد، بل ومن أصحاب الوفاء للقيم الإنسانية العابرة للمكان والزمان الأرضي. والشواهد في هذا المقام أكثر من أنْ تُعد. ومقام هذا الكلام مقولة رائجة نكاد نُطلق عليها (جناية أدونيس) وفحواها أن أدونيس بطريقته التغريبية في الكتابة فتح الباب لكثير من الشباب أن يكتب كلٌّ هذيانه ويُذيِّله بلازمة.. شِعر!

لكن أدونيس، وأنا أحد قرائه في قديمه وجديده، يدعوني إلى أن أميل، صادقاً، إلى أشيائه من الشعر التي غلبه فيها الفن على نفسه، وإلى ما أراده من كونه شاعراً صرفاً، وأجدني أبتعد عما قصده في كثير من شعره المتأخر، المائل إلى نوع من المثاقفة، حتى لا أقول التثاقف، والمتكلف معنىً يعسر على المتلقي، رغم أنني لست من أنصار التذوق الحسي المقتصر على التقاط معنىً سهل المنال شأن التصوير، تحديداً، في الفنون التشكيلية مثلاً،.. وحتى لا أبتعد في استطراد قد يقودني أو يقود القارئ إلى لا شيء، أوضح أن المقصود بالشاعر الصرف حالة الشاعر الذي لا يتوسل من كتابته سوى إرضاء نفسه شعرياً، فلا يقع تحت تأثير أي شيء سوى ضميره الشعري، إنْ جاز التعبير. والمعنى الأقرب لإيضاح ذلك هو عدم الكتابة للمناسبات، حتى السياسية منها، بل وعدم نشر أي شعر مناسباتي، حتى لو كان صادقاً ولصديق تحبه، أو تحاول أن تكرمه في حياته، أو مماته. فالشعر المناسباتي يقتل قريحة الشاعر ويجعله غِبَّ الطلب، كما قالت لغة الأقدمين. ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن الشعر - الشعر لا يقبل شريكاً، فنفس الشاعر تأبى أن تشاركها نفس شخص آخر في صياغة مقاصده أو لغته. ولعل بعضنا قد سمع عن، أو قرأ، مجموعات شعرية يؤلفها شخصان، أو أكثر، دون تحديد لمن هذه القصيدة أو تلك، والنتيجة شيء هجين في توسل الصناعة، والتجريب البعيد عن روح الإبداع، وعن خصوصية التجربة الإنسانية المختلفة بين البشر اختلاف بصمات أصابعهم، وما كان ينقص أولئك سوى أن يضعا، أو يضعوا، بدل اسم المؤلفَين، أو المؤلفِين، عبارة (الأخوان فلان) على غرار طيبي الذكر الأخوين رحباني، وللمناسبة اتضح بعد وفاة عاصي الرحباني لمن كانت الكلمة الفصل في إبداعهما العصي على التكرار في الزمن المنظور.

بالعودة إلى أدونيس الشاعر، فإن قلة هم الذين كتبوا ينتقدونه، كشاعر وشعر وقصيدة، بل الكثرة تناولت الظواهر الإعلامية التي تلاحق أدونيس، كنجم شهير، وعلامة ظاهرة في الثقافة العربية، والسورية - اللبنانية خاصة (كونه مزدوج الجنسية، وكون لبنان أولاً هو من صدَّره للعرب شاعراً كبيراً)، ولا ننسى مستقره الباريسي الذي صدره للعالم، ولجائزة نوبل كمرشح محتمل منذ عدة سنوات،.. فأدونيس يطلق مقولة في محاضرة في (مسرح المدينة) في بيروت منذ عدة سنوات ينتقد فيها بيروت، فلا تهدأ الصحافة والتلفزيونات لعدة أسابيع وهي تهاجمه وتنتقده، وتحاول أن تستبطن ما وراء حديثه من مقاصد،.. وأدونيس يحضر صحبة كتاب إسرائيليين مؤتمراً أدبياً متوسطياً في برشلونة منذ أكثر من عشر سنوات، فيبادر اتحاد الكتاب العرب (زمن علي عقلة عرسان الذي يترحم كثيرون على أيامه) إلى فصله من عضويته بتهمة التطبيع، وتنشغل الصحافة لأشهر وسنوات بالحديث عن ذلك، ويدافع هو عن نفسه ضد هكذا تهمة تحديداً،.... لكنني أريد الإشارة إلى مقالة كتبها صحافي سوري بارز (ياسين الحاج صالح) رداً على أدونيس في صحيفة النهار اللبنانية، كنوع من العتب الذي يشعر به كثير من المثقفين السوريين على أدونيس، وعنوان المقالة (أدونيس يُهدر فرصة أن يبقى صامتاً) ولعل العنوان يكفي للدلالة على فحوى العتب واللوم الذي فيها.

كل ذلك، كعطف على المقدمة، جعل من أدونيس شخصاً محتفىً به، وله من الأنصار أكثر مما له من المناوئين، الأمر الذي جعل منه نجماً إعلامياً وظاهرةً أكثر منه شاعراً له محبون ومقلدون يحفظون شعره ويقلدونه في كتاباتهم، شأنه في ذلك شأن كل الشعراء الكبار. وفي شعر أدونيس، هنالك فرق بين كيمياء الشعر الأدونيسي، والشعر الجماهيري، الذي اقترب منه أدونيس في بداياته، ففي بداياته، نهاية الأربعينيات، كانت حركة الحداثة الشعرية العربية في بداياتها، كتأسيس نظري واعٍ ومقصود، وكان لأدونيس نصيب قليل فيها بواقع معاصرته لها على الأقل، لكنه لا يُعد بحال من الأحوال بين الرواد، بل له شعر تقليدي معروف في تلك الفترة، وتالياً له دواوين من شعر التفعيلة، الذي أسس لمُنجز أدونيس الذي جعل منه ما هو عليه الآن أكثر مما فعلته أعماله الأخيرة. ومثال تألقه الذي لا يسبقه إلى الذاكرة شيء (أغاني مهيار الدمشقي) تحديداً، والذي يُعدُّ العلامة الفارقة في كل إنتاجه، كشعر رؤيوي، جمالي، فيه من الطلاوة والمعنى بقدر ما فيه من الموسيقى والإشراق، والذي يستمده أدونيس من تاريخ جمعي مميز جعله عابراً للغة، فأُعجب به الفرنسيون والعرب كل بلغته، ومن ثم كان لمهيار الحظ في جعل أدونيس أحد مفردات الثقافة العالمية، لكن المنَتج المتأخر لأدونيس منذ منتصف الثمانينات حتى الآن أخذ طريقاً مختلفاً، بحيث جاءنا كمنتج بذائقة أوروبية تشبه إلى حد كبير الشعر المترجم، وترجمة الشعر كما يتفق جميعنا هي نوع من خيانة الأصل، على الرغم من أن أدونيس يترجم الشعر الفرنسي، خاصة، بذوق إيقاعي جميل. ومن هنا يُمكن أن يؤدي بنا التحليل إلى القول إن أدونيس تأثر باتجاه لغته إلى منطق اللغات الأوروبية الغربية، بما يحمله ذلك من طيف المجتمع الأوروبي المختلف في تسارع التغيرات في نواة العائلة المكونة للمجتمع، وعلاقات العمل، والتغيرات المصاحبة لثورة الاتصالات.. إلخ. ولنأخذ مثالين مما نحفظه ونُعجب به، فأدونيس هو القائل:

(حينما أُغرقُ في عينيك عينيْ

ألمحُ الفجرَ العميقا

وأرى الأمسَ العتيقا

وأرى ما لستُ أدري

وأحسُّ الكونَ يجري بين عينيك وبيني).

وأدونيس هو القائل في (كتاب الحصار):

حاضناً سنبلةَ الوقتِ ورأسي برجُ نارٍ:

ما الدَّم الضاربُ في الرَّملِ، وما هذا الأفولُ؟

(قل لنا، يا لهبَ الحاضرِ، ماذا سنقولُ؟

مِزَقُ التاريخِ

في حَنْجَرَتي، وعلى وجهي أماراتُ الضحيَّهْ

ما أمرَّ اللغةَ الآن، وما أضيقَ بابَ الأبجديَّهْ).

وأذكر أنني قرأت مقالة للمرحوم المحامي والأديب نجاة قصاب حسن، استشهد فيها بالمقطع الأول ليقول بشاعرية أدونيس، وينتقد نتاجاً آخر له رأى فيه تغريباً، وكيمياء، مما لا يناسب الذائقة العربية في الشعر. وهو ما نتفق فيه مع المرحوم قصاب حسن جزئياً، ونختلف معه في كون الذائقة هي الذائقة، لكن حمولة الشعر الجيد تبقى انعكاساً حسياً أولاً، وحين تتأثر هذه الحمولة الشعرية الحسية بكثير من العقل والتعقل، تصبح رأياً، أو حكمة، أو نمطاً، أو كيمياء لغوية، وحين تتألق القريحة بإشراق ستأتي بصورٍ لا تخطر حتى في بال الشاعر نفسه، حتى ليكاد في اليوم التالي يسأل نفسه من أبدع ذلك؟! بل وأكثر فإنني صادفت شرحاً ونقداً لقصيدة (أحمد الزعتر) أعجب به محمود درويش (والقصيدة لدرويش بالطبع)، وتمنى لو كان يقصد هذا تحديداً من الصور المشرَّحة، غير أن القيمة الكبرى والحقيقية للشعر هي في إمكانية أن يُحمِّله كل ناقد، بل وقارئ، ما يريد من أبعاد الصور وفق ذائقته وخبرته ومزاجه الانفعالي.

خلاصة الأمر، أن لقامة شعرية مثقفة كأدونيس جانبيها، الشاعر والظاهرة، فللشعر تجريده المنفصل عن الشخص إبداعياً، وللظاهرة جانبها الإعلامي والإيحائي الذي يؤثر في جمهور الشعراء المريدين، حيث يجعلون من شاعرهم أيقونة، ويحاولون بوعي، أو دون وعي، تقليد نتاجه، فيقعون أسيري كلماته، وهؤلاء، حكماً لن يحققوا سوى صورة باهتة عن الأصل. أما الجانب المضيء للمسألة، فهو أن وعي التجربة لدى الشاعر الكبير، ولدى الجمهور المتابع، شعراء وقراء، ينتج عملية تفاعلية تحمل الشاعر مسؤولية الارتقاء بتجربته، وتُحمِّل القارئ مسؤولية الارتقاء بتذوقه الشعري، وعدم محاباة شاعره في كل ما يقول وينتج، بمعنى أن القارئ يحاسب الشاعر إن لم يُرقِّ مستوى إنتاجه استجابة لتطور تجربته وابتداعه أساليب جديدة في متن شعره وهوامشه.

- دمشق


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة