Culture Magazine Monday  26/01/2009 G Issue 268
فضاءات
الأثنين 29 ,محرم 1430   العدد  268
بلدي حبيبي
شهلا العجيلي

 

فزعت البلدة من خبر ارتفاع أسعار الوقود، ووقع الناس في حيرة وخوف؛ إذ كيف يمكن لهم أن يتدبّروا حياتهم، والدنيا على أبواب شتاء، وشتاء بلدتهم الجبليّة ظالم البرد، ثمّ إنّهم لا يملكون من وسائل التدفئة سوى هذه المدافئ المازوتيّة الصغيرة التي آنستهم سنوات طويلة، أمّا مدافئ الكهرباء، فلم تدخل بيت أحد منهم، فما فائدتها إذا كانت فاتورة الكهرباء تجاوز في ظلمها ظلم الطبيعة، هذا إن كان التيّار متوافراً!

مع ذلك الخبر غير السارّ، أعيدت المدافئ المازوتيّة التي انتصبت في البيوت منذ مطلع الشهر، إلى المخازن، أو تمّ بيعها في سوق الخردة، لتحلّ محلّها مدافئ الحطب؛ فالحطب، مهما ارتفع سعره، لن يوازي سعر البترول، وليس أكثر منه في هذه البلدة المحاطة بغابات كثيرة، لا تزال بكراً، ويمكن أن تدفّئ الناس شتاءات كثيرة!

ما كاد أهل البلدة يفرحون بالشعلة الأولى للمواقد ومدافئ الحطب، التي بثّت الحميمية في نهاراتهم ولياليهم، وذكّرتهم بغابر الأيّام، حين كان أجدادهم يتجمّعون حول مثل تلك المواقد، ويروون الحكايات، حتّى نما إلى أسماعهم أن الحكومة منعت التحطيب في الغابات المجاورة؛ لأنّه عشوائيّ، ويوقع أضراراً بالغة بالثروة الطبيعيّة، ويهدّد الأمن البيئيّ عبر استنفاد مصادر الطاقة النظيفة؛ ممّا يعيق عمليّة التنمية الشاملة! ومع ذلك تركت الحكومة الرحيمة باباً يدخل منه الدفء؛ إذ منحت شركة (بلدي حبيبي) وكالة حصريّة بالتحطيب؛ ذلك أنّ الشركة حاصلة على شهادة (الأيزو) في التحطيب من غير الإضرار لا بالطبيعة ولا بالبشر؛ وبذلك صار بإمكان الناس أن يطلبوا الحطب على الهاتف؛ فيصلهم إلى المنزل عبر خدمة التوصيل المجّاني؛ فيصير سعر الحطب مع الضريبة والخدمات، أغلى بقليل من سعر المازوت.

البرد الذي راح ينخر أجساد الصغار، وحالات التهاب القصبات التي قتلت عدداً من المواليد الجدد، جعلت أهل البلدة يتوجّهون إلى معاصر الزيتون المجاورة؛ فيشترون (جفت) الزيتون بثمن بخس، ويلقون به في مواقدهم التي ازدهت بنيرانها الحمراء المعطرة بعبق إكسير الزيتون، وعادت البهجة لتسكن حمّامات الناس، وتلوّن وجوه أطفالهم بألوان العافية. وحين نزل الناس إلى المعاصر لينقلوا الجلبة الثانية من (جفت) الزيتون، وجدوها مغلقة، وقد رفعت على كلّ منها لافتة تقول بأنّ الوكيل الحصريّ ل(جفت) الزيتون هو شركة (بلدي حبيبي). وهكذا، صار الناس يبتاعون (الجفت) من البقّاليّات، مضغوطاً ومغلّفاً، ومعلّباً، بعلب أنيقة، مختومة بشعار (بلدي حبيبي)؛ فاحذروا التقليد، وأيضاً ثمّة هاتف لخدمة التوصيل المجاني إلى المنازل، وبذلك تضاهي تلك البضاعة المحليّة بجودتها أرقى البضائع العالميّة، وإن كانت تتفوّق عليها بالسعر؛ لأنّ زيتون هذه المنطقة بالذات زيتون مبارك!

حين ضاق أهل البلدة ذرعاً بالبرد، فكّروا بالشمس؛ فالشمس لا يمكن لأحد أن يحجبها! وقبل أن يهمّوا بتركيب شفرات آلة الطاقة الشمسيّة، تسلّموا إنذارات احترازيّة، تفيد بأنّ شركة (بلدي حبيبي) هي الوكيل الحصريّ لأشعّة الشمس؛ فأحجموا عن تركيب شفراتهم.

مرّت أشهر الشتاء بطيئة من غير أن يحرّك أهل البلدة ساكناً. لم يحاول أحد منهم الاحتيال لاستدرار شيء من الدفء؛ ممّا أقلق شركة (بلدي حبيبي) على وكالاتها الحصريّة المتعدّدة، فما كان منها إلاّ أن أرسلت مندوبيها إلى البيوت؛ لاستطلاع أمر الناس الذين قد يقتلهم مثل هذا البرد؛ فعاد المندوبون بتقارير متطابقة تفيد بأنّ البيوت كلها لا تستعمل أيّة وسيلة للتدفئة؛ لأنّ أهل البلدة جميعاً قرّروا ألاّ يشعروا بالبرد.

ليلة انهار البناء

ليلة انهار البناء، خرجت المرأة التي تقطن في الطابق الثاني في وقت متأخّر، قالت إنّها ذهبت إلى منزل أهلها في الشارع الخلفيّ لتأتي برغيف خبز، فزوجها الذي سافر فجأة في ذلك اليوم، لم يتسنّ له إحضار متطلّبات البيت. حين عادت المرأة مع الفجر وجدت بيتها كومة حجر تحتها طفلاها النائمان ميّتين. فيما بعد تبيّن أنّها كانت عند أحدهم، ذلك الرجل الذي يقطن في آخر الشارع.

وليلة انهار البناء، غادر الرجل مكتبه نحو الحادية عشرة مساءً، لم يتّجه إلى البيت، زعم أنّ عملاً كثيراً لديه، مناوبة، أو ما أشبه، صرف سائقه، وقاد السيّارة بنفسه، توقّف أمام (سوبر ماركت)، اشترى طعاماً وشراباً، ومضى...

مع الفجر، أخلى رجال الدفاع المدنيّ جثّة ضابط كبير، كان في منزل فتاة، فتاة ليل، تقطن في الطابق الرابع.

وليلة انهار البناء، غادرت الحماة منزلها، ومعها ابنتها؛ لتقضي اللّيلة في بيت ابنها الذي يقطن في الطابق الثالث، ويعمل في دولة عربيّة، مستغلّة غياب زوجته. كانت تلك عادتها، كلّما سافرت الكنّة لتزور أهلها في المدينة المجاورة، اقتحمت الحماة منزلها، لتفتّش، وتطّلع، وتأخذ...

ليلتئذ، استُدعيت الكنّة لتتعرّف على حماتها وبنت حميها اللّتين خرجتا جثّتين هامدتين من تحت الأنقاض.

وليلة انهار البناء، طوّقت الشرطة المكان، وحوّم الصحفيّون حول الطوق، يتلقّطون الأخبار من هذا وذاك، ودارت كاميرات التلفزيونات، وقام رجال الدفاع المدنيّ بعمليّة إخلاء الجثث، يساعدهم متطوّعون من أهل الحيّ، وولولت سيّارات إسعاف ثلاث، وندب أهالي الضحايا ضحاياهم، وبكوا، ولمعت عيون بعضهم باللّهفة والأمل؛ عسى أن يُعثر على أحياء.

هذا ما ورد في تقرير مختار الحيّ عن اللّيلة التي انهار فيها البناء.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244

حلب

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة