Culture Magazine Monday  26/01/2009 G Issue 268
مراجعات
الأثنين 29 ,محرم 1430   العدد  268
استراحة داخل صومعة الفكر
الينابيع
سعد البواردي

 

محمد بن علي السنوسي

110 صفحات من القطع الكبير

الينبوع مصدر الماء المتدفق الذي يمد الجدول بأعذب ما فيه من ري تسعد به الأراضي العطشى إلى وِردها..

وللفكر ينابيعه، حيث ري الحياة الذي يرتوي به ومنه ظمأ الفكر الراكد الذي يحتاج إلى تنشيط يستوعب من خلاله ما عجز عن مناله من معرفة..

السنوسي شاعرنا الراحل فجّر لنا ينبوع فكره.. صاغه شعراً كي نقرأه.. وخطاباً نتملاه ونتأمل في مضامينه.

(الرسالة. والرسول) قصيدة مجيدة المحتوى جمع فيها بين دلالة الرسالة إلى الحق.. وبين مصدر تلك الرسالة السماوية السمحة:

من الجزيرة من أرضي ومن بلدي

تألق النور، نور الحق والرشد

ومن رباها. رباها الطائرات ثرى

تنفس الصبح من (بدر) ومن (أحد)

وأشرقت بابن عبدالله وأتلقت

رسالة الله زاه نورها الصمدي

تدعو إلى الحق في سر وفي علن

في قوة تتحدى كل ذي صيد

ويلتفت إلى قومه.. إلى الخلف بعد السلف الذين أسلموا جفونهم للنعاس صارخاً فيهم (اصحوا !)

فليت قومي وقد هبت رياحهموا

لا ينفلون عن القناصة الجدد

لا يركعون لغير الله إن ركعوا

ولا يقولون إلا الحق إن ركعوا

وفي ختام قصيدته الطويلة يقول:

وسوف يبقى هدى الإسلام منتصرا

على الطواغيت والإلحاد والريب

وكل إفك وبهتان يراد به

محو الحقيقة لا ينجو من العطب

(كناطح صخرة يوماً ليوهنها)

من البلاهة قطع الصلب بالخشب

الشطر الأول من آخر أبياته استقاه من مقولة شاعرنا القديم:

كناطح صخرة يوماً ليوهنها

فلم يضرها وأدمى قرنه الوعل

روحه الدينية المتوهجة تطغى على شعره.. وتتملك مشاعره.. ينتزع منها الصور المشرقة ويطرحها خطابات عظة وإرشاد.. في مقطعوته الثانية (ثاني اثنين) ويقصد بهما رسول الإنسانية وهو في غار حراء مع صاحبه أبي بكر الصديق..

يا ثاني اثنين في دار هي الغار

إن اختيارك للمختار مختار

ويا رفيق الهدى والليل معتكر

والأرض ترجف والأهوال إعصار

أبصرت أشباح أقدام وهمهمة

وألسناً تتناجى (تلك آثار)

يا صاحبي لا تخف الله يحرسنا

بلطفه وللطف الله أسرار

يسترسل في رحلة شعرية يقينية من قوة رسالة.. إلى ضعف جهالة.. إلى الردة الأولى في عصر النبوة وما تلاها من وهن.

تفرّق الجمع وانحلت شكيمتهم

وانهار إيمانهم بالله فانهاروا

نقلد الغرب إلحاداً وزندقة

ومن تحلله نجني ونشتار

ولا نقلده علماً وتقنية

ولا انطلاقاً له نفع وإثمار

شاعرنا وضع أصبعه على الدمل كي يفقأه.. تقليد لا تجديد.. أخذ بالمظهر لا بالجوهر.. وتلك مشكلة ما بعدها مشكلة.. ومن عقيدة الحياة.. إلى رصيدها:

رصيدك في بنك الحياة غرور

إذا لم يغطه تقى وضمير

وفي شركات المال سهمك خاسر

إذا جف إحساس ومات شعور

لكأن شاعرنا معنا يتفرج على لعبة المضاربة، المضاربة في الأسهم، حيث الحيتان الكبيرة تبتلع الحيتان الصغيرة الفقيرة.. تستلبها بقايا بقاياها.. نعجتها الواحدة كي تضمها إلى نعاجها التسعة والتسعين دون أن ينتصر لظلامتها أحد..

عبدنا حطام المال حتى كأنه

إله على كل الأمور قدير

وسرنا إليه خاضعين كأننا

قطيع شياه ما لهن خفير

ومن نار المال الجَشِع.. إلى نور القلوب الذي لا طمع فيه ولا احتكار.. ولا استثمار يتحكم فيه الكبار

من صميم الحياة ارتشف الشعر

وفي كأسها أصب الرحيقا

وعلى نورها أسير وإن كانت

طريقي عواصفاً وحريقا

رُبّ يوم رأيت فيه الأماني

حلوة المجتنى تسيل عذوبه

فتأملتها فكانت طريقي

نحوها سهلة وكانت قريبه

أحسب أن مفردة الطريق مذكر لا مؤنث.. الصحيح (كان طريقي.. لا كانت)..

غير أني صددت والحر يأبى

شرب كأس به الدنايا مشوبه

والصدى للنفوس أكرم إن عا

مت بأقدامها جسوم غريبه

(أمامك الدنيا) مشهد حي لا يكلفنا أكثر من نظرة فاحصة ترى وتتعمق في رؤيتها برؤيتها ورويتها..!

أمامك دنيا ترهق القلب والعقلا

فيا خاطري رفقاً ويا ناظري مهلا

تمنيت من قلبي أنني قلت هذا البيت.. لجماله وجلاله:

جرت وجرينا وانتهينا ولم تزل

تسابق في غلوائها الصقر والوعلا

مشينا دجاها والضحى في عيوننا

وحزنا ضحاها والدجى يغمر العقلا

فدعها كما شاءت تدير أمورها

فما كفها حلما ولا بطنها جهلا

رائعة نظرته إلى الحياة.. مزيج من حكمة وفلسفة لا يقوى على طرحها إلا متمكن يتملك ناصية شعره باقتدار..

(الموج والشاطئ) جاران لا يفترقان.. يضم الموج بكفه الشاطئ فيعتب عليه.. ويتباعد عنه أخرى فيغضب منه لارتياعه..

ماذا يقول الموج للشاطئ

في مده الهادئ والهادر؟

ومن ترى يعرف أسراره

من كاتب منا ومن قارئ؟

يختلف الليل به والنهار

والبدر كم هلّ به واستدار

والشمس كم دارت بهذا المدار

وكم هوت تجري بذاك القرار

وينتهي في رائعته الى التشبيه الجميل بين موج يثرثر فما ينتهي، وبين إنسان يثرثر فما يشبع:

يثرثر الإنسان منذ الأزل

ثرثرة الموج بحضن الجبل

لكنه في غيّه لم يزل..

وكلما ازداد صعوداً نزل

أين من هذا الشعر شعر المُحدثين.. المتحدثين بلغة اللغز.. والتسطيح.. والارتجاج؟!

البصيرة هي التي ترى.. والبصر هو الذي يحدّد أبعاد الرؤية.. لا بصر دون بصيرة.. كما لا عين دون حدق وشرايين

قال لي وهو يستجيد المزايا

شكل نظارتيك حلو الزوايا

قلت: لكنها تريني قشورا

حين ارنو ولا تريني الخفاء

لِمَ لَمْ يخترع لنا العلم منظارا

يرينا ماذا تسر الحنايا؟

قال: لو كان ذاك أقفرت الدنيا

ولم تأتلف عليها البرايا

حوار أفكار مشبع بجماليات الطرح والتصوير أجاد فيه شاعرنا الإبداعي الراحل السنوسي.. كان مفكراً جيداً.. السراب أشبه عن بعد بالماء الذي يتشوق إلى جرعته العطاش.. الماء يُروي لأنه ري نابع.. والسراب يظمي لأنه خيال خادع..

أرحْ عينيك من لمع السراب

وقلبك من أمانيه العذاب!

وعد من القشور وإن تراءت

رقاقاً في الضباب وفي السحاب

فقد فاض الظلام على حياة

تفيض بها الكؤوس بلا شراب

يخرج من دائرة الماء المشروب والمسكوب الى ظمأ الحياة. وعطش الروح وأوار الطموح..

فقد صبغ السراب حياة عصر

مخضبة الأظافر.. والإهاب..

وصرت أشك حتى في مياه

أخوض بها.. ولو بلت الثياب..

الشك في مواجهة الشك يقين يرقي إلى درجة الشك.

عقدة الأسى قد تتحول إلى عقدة نفس هي الأخطر.. شاعرنا أحس بعقدة أسمى.. إلى أين انتهت به العقدة؟

أتريدين أن يكون بياني

رائع اللفظة عبقري المعاني؟!

كيف يا أمتي وإن في جنبك

جرح يهزني من كياني؟!

كلما أبصرته عيناني فاضت

بالأسى راهبا وبالدمع قاني

إنه لا يقدر على طرح ما يتمنى.. فالهزيمة كسرت مجاديف شعره.. والذئاب تنهش جسد أمته من كل جانب:

أيعيث الذئاب فينا وتختار!

وننهار!.. يا له من هوان!

يترحم على أرواح قادة قادوا أمتهم إلى النصر وانتصروا على القهر والهزيمة:

رحم الله خالداً والمثنى

وأبو أيوب.. والفتى الحمداني

شعر شاعرنا محلّق بمشاعره نحو السماء.. كل وردة فيه تستهويك بشمها لأنها نكهة شمم.. ورائحة همم خلدها إحساسه بأن الحياة عطاء.. وإباء.. وحرية. وصحوة من كبوة قد تطرأ.. نشم معاً وروده اليانعة ذات اليمين وذات الشمال وقطار الرحلة يذرع مساحة السفر دون توقف.

(الحق المهان) (التضامن الإسلامي) (الأرز والنخيل) (الكيان الكبير) كلها زهور نود شمها وضمها إلا أن اليد قصيرة.. والرحلة قصيرة أيضاً فمعذرة..

من مقطوعته (البحر الأخضر) اجتزئ منها أبياتاً ثلاثة تتناول سلاح الأديب الذي يلتزم بأدب الحرف:

أتظن أن خصامنا وخلافنا

في الرأي يكسر للمودة معصما

قلب الأديب نباله.. واصاله

ذهب يزيد على الغرام تضرما

وضميره الأدبي لا ينتابه..

وقر ويأنف ان يسف تكرما

اخترت الأبيات الثلاثة لا لأنها الأجمل من بين جميلاته.. ولكنها تكشف جانباً مَرَضياً غير مُرض في واقع جدلنا على مستوى المهنة.. نثور لمجرد النقد ونغضب لكلمة هادئة هادفة تشير بأصابعها إلى ضعف في قصيدة شعر. أو قصيدة نثر.. نملأ دنيانا ضجيجاً وسباباً وخروجاً عن مألوف الحوار والرأي الذي يوصل إلى الأفضل.. الخلاف في الرأي يجب أن لا يفضي إلى الاختلاف..

أول قصيدة في ديوانه تتحدث عن الحب.. الحب الكاذب الذي لا طعم له ولا لون ولا رائحة:

ضحكت حين قال إياك أهوى

أنا يا (هند) ليس لي عنك سلوى

ورنت نحوه بطرف كليل

لمح أهدافه يرفرف هزوا!

أتشكين؟ قالها في انتقاد

واعتداد؟! قالت: أجَلْ تلك دعوى

فسرت له صواب رؤيتها نحوه:

أنت لو كنت يا حبيبي حبيبي

صادقاً كان لي في فؤادك سلوى

كم تمنيت ما تقول وأمّلتُ

فكان الحصاد لغواً ولهوا!

وكيف انتهى بها الحال في تجربة حب خادع:

ذاب عمري. وشاب شعري وأصبحتُ

حطاماً ولم أنل منك جدوى

عد عن هذه الطريق فإني

أنا أدري بما تريد وتهوى

لا. لن أكون لعبة كفيك

فنفسي أعز شأواً وأقوى

كانت عزيزة في عزتها وحشمتها.. رفضت أن تكون ألعوبة حب خادع.. ومخادع..

ولأن من يملك طرفاً من رداء الفلسفة يتعلق بالفلاسفة والفلسفة.. حتى ولو كان خيالهما مشدوداً إلى طائر أعمى يجثم على غصن شجرة الفيلسوف كان في رحلة سفر.. أدركه التعب.. ألقى عصاه تحت فيء شجرة شخص ببصره.. رأى الطائر القابع في صمت مكسور الجناح:

فرأى طائراً على فرع غصن

غائر الناظرين أعمى سقيما

واستخفت به الحماقة واستلقى

من الضحك هازئاً متهوما

كيف يسعى لرزقه؟ كيف يمشي؟

فاتحاً محضراً وسينا وجيما

وهو يتساءل لمح طائراً آخر يحلّق في سماء الشجرة ثم يركن إليها، حيث يقعد الطائر الأعمى ويمد منقاره إلى منقاره يطعمه ويسقيه. فيلسوف شاعرنا كان ملحداً أسلم على المشهد.. آمن بأن للكون إلهاً وأن للكائنات رباً.. وللرحمة فسحة في حياة المخلوقات الأخرى أقلها في حياة الناس، حيث المادة أعمتهم.. والمطامع أغرتهم.. والأهواء أهوتهم.

(شد الحزام) مأخذ من الشديد والشدة.. لها معان ثلاثة.. في المصطلح الاقتصادي يعني التقشف وضغط الاستهلاك.. ويعني أيضاً شد حزام الراحلة حتى لا تقوى على الوقوف ومثله شد القيد بالنسبة للمتهم لشل حركته ومنعه من الهرب.. ترى أي الثلاثة أخذ به شاعرنا السنوسي؟!

يبدو أنه شد حزام آخر هذا ما كشف عنه بقوله:

شد الحزام تقولها وأقول لست أجيد حزمه

أنا خصم كل يد سواك تشده وتفض ختمه

مدت أناملها تزيح خصائلاً كالليل ظلمة

فبدى ضياء الفجر فوق جبينها نوراً ونسمة

قلبي يحب دائماً في حبه خلق وحشمه

ويهيم بالغد الحسان ولا يبيح لهن حرمه

إنه شد حزام حب.. أرخت قيده غلطتان يسيرتان.. أولاهما (فبدى) والصحة (فبدا) والثانية (الغد الحسان) والصحة (الغيد) (كيف أسلوكِ) عنوان يطرح

التساؤل وينتظر الإجابة عليه:

كيف أسلوكِ والرؤى والأماني

عن شمالي طيوفها ويميني؟!

شاخصات إليك تهتف بالقلوب

وتجري به كمجرى السفن..

حملت نفسي الحنين لقلب

يتجنى على الهوى والحنين!

أنا منه في لفحة الياس مال

وهو مني في نفحة الياسمين

الحب اليأس حب بائس لا يعيده إلى صوابه كل زهور البساتين وعطورها.. عليه شد حزام اليقين بالحب وإلا توقف.. أخيراً مع آخر مقطوعاته الجميلة بعيداً عن شدّ الحزام. ومد شراع السفن.. وقد الحسناوات اللواتي أثرن لواعجه.. وبعيداً أيضاً سد أحلامه التي اغتالتها إحباطات زمانه.. بعيداً عن كل هذا يطرق بوابة الشعر الحر لأنه حر..

لا العود عودي ولا الأوتار أوتاري

ولا أغاريدكم من شدو أطياري

من أين جئتم بهذا الطير ويحكموا!

لا الريش ريشي.. ولا المنقار منقاري

إنه يرى في الشعر المنثور مجرد محكات تغريبية.. إن لم أقل تخريبية المزاج.. إيقاعها وقع وجرسها دون نغم.. وبنائها الشعري المتكامل مجرد أنقاض لا يبني بيتاً.. هكذا يرى..!

وصرت أسمع ألفاظاً مقلقة

طرق المسامير في دكان نجار..

أني أرى في جناحيه وسحنته

سمات (اليوت) لا سيما بشار

سود، وحمر، وسفر لا انسجام له

كرسم (بيكاس) يعمى فهمه القارئ

يعني (بيكاسو).. والألوان المختلطة التي لا تكشف لك عن وجه واحد تميّزه.. وتستنبطه.. شاعرنا يعشق أصالة الشعر ويأبى معاصرته المرتبكة.. والشعر مضمون ومحتوى.. ومثله النثر مضمون ومحتوى.. بتجرده منها لا شيء..

وبعد.. ثرية رحلتنا مع شاعرنا محمد بن علي السنوسي.. كان فارس كلمة باقتدار رحمه الله.. وإلى لقاء.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة