Culture Magazine Thursday  26/05/2011 G Issue 343
أوراق
الخميس 23 ,جمادى الثانية 1432   العدد  343
 
بين الإبداء والإخفاء
عبدالمؤمن القين
-

بل بين الإخفاء والإبداء، إذ إن الإخفاء غالباً ما يسبق الإبداء.. ولكن الصورة أصبحت مقلوبة في عصرنا هذا، فكل ما كان خافياً ظهر وأصبح جلياً.. هذا على مستوى الأحداث.. أما على مستوى الصراع بين الخير والشر، فمن النادر أن يختفي الخير في ثنايا الشر، فهو دائماً ظاهر جلي باد، لكن الإنسان يتجاهله إما بسبب استغراقه في أمر من الأمور، أو بسبب نرجسية أو اكتئاب أو أثَرَة.. إلخ، مما يبعده عن جادة الصواب أو الخير بمعنى أصح.. فيكون والشر صنوين، يسير بعضهما مع الآخر، بل تأخذ قسمات وجهه طابع الشر نفسه من تكشير وتقطيب وهلع وجزع، قال تعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} (20) سورة المعارج.

وفي الصمت خير للإنسان حينما تحيط به اللجاجة وتؤدي إلى ظهور الشر، قال الشاعر:

قالوا سكتَّ وقد خُوصمتَ قُلتُ لهم

إنَّ الجواب لبابِ الشر مفتاحُ

فالصمتُ عن جاهل أو أحمق شرفٌ

وفيه أيضاً لصون العرض إصلاح

وقد أسبغ بعض الشعراء، كضياء الدين رجب - رحمه الله - صفات الإحساس على بعض مخلوقات الله العظيمة كالبحر، فقال مخاطباً البحر:

وضاق آذيَّك العاتي فارسلها

ملمومة بين إخفاء وإبداء

تقول قولتك الشعواء باسمة

أني تضيق الدنا في عمق أحشائي

وحينما يقف الناقد أمام عبارة (قولتك الشعواء) وكيف يقولها البحر (باسمة) أو وهو يبتسم؟ يجد الإجابة محددة (بين الإخفاء والإبداء) على حد تعبير الشاعر نفسه، فليس من الضروري هنا أن يقول البحر قولته، فيقلب سفينة بموجه العاتي - مثلاً - ويظهر أو يبدي غضباً أو يكشر في وجه أعدائه، بل إنه يبتسم - ربما - تشفياً بهم واستهزاء بمغالاتهم ولأوائهم وافتئاتهم وعنادهم وعصيانهم، ولا غرو في ذلك فالبحر يستأذن ربه كل يوم - كما ورد في الأثر - ليغرق الطغاة الذين إن شاء الله تعالى يوبقهنَّ بما كسبوا، قال عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} (32 - 34 سورة الشورى).

ولا يقتصر الابتسام مع فعل الهلاك والتدمير على البحر، بل إن بعض الشعراء - كأبي تمام- صوّر الأسد حينما تبرز أنيابه وحذر الإنسان من الظن بأن الأسد - حينذاك يبتسم - فقال:

إذا رأيت نيوب الليث بارزة

فلا تظن أن الليث يبتسم!!

ومن الابتسام إلى (اللمس) يجد الناقد الشارح لمعنى (بين الإخفاء والإبداء) أمام قول الشاعر:

إن الأفاعي وإن لانت ملامسها

عند التقلب في أنيابها العطبُ

ومن اللمس إلى (الحيلة) عند الثعابين نفسها أو (التلون) بمعنى أدق، حيث تكتسب لون الوسط البيئي الذي تعيش فيه، وربما تعلّم منها الإنسان (المتلون) هذا النمط من السلوك.

وعود على بدء، نجد ضياء الدين رجب قد فصل القول في وصف قولة البحر الشعواء، فقال على لسانه:

العائشون على فيضي ومنتجعي

والهالكون طعام للأجناء

فما أسِفْت لروَّاح على ثقة

ولا فَرِحْتُ من الدنيا بغداء

الهابطون على مائي واجنحتي

الصاعدون على أفقي وأمدائي

أن يصخبوا بين آفاق السماء ضحى

قلت السماء عليها طعم أنوائي

ولست أحمل عنهم عبئهم أبداً

ولو هُمُو حملوا بالوهن أعبائي

تلوب في اللج أطواد وألوية

على الحروب وفوق الدهر إفنائي

ثم يعود ويوجه الخطاب للبحر قائلاً:

غالطت يا بحر هذا الكون فاستبقوا

إلى صفاتك من دانٍ ومن نائي

قالوا عظيم كعُمْق البحر مُنْبسط

كوجهه بين إشعاع ولألاء

فتاه كل عظيم في مطارفه

والتفّ في ثوب ذكّار ونسّاء

وكل ما انفرجت دنياه واتّسعت

قال الدنا طوع آرابي وأهوائي

وإن تشاجرت الآراء وارتطمت

لديه حطَّم آراء بآراء

ما دمت قد جزت آفاق المدى قدماً

لا فرق بين أحبائي وأعدائي

والبيتان الأخيران يعبران أصدق تعبير عن سلوكيات البعض في أيامنا هذه كما كانت في غابر الأيام وما يقابلها من مواقف نبيلة سمت بأصحابها فوق شهوة السلطة والانتقام.

وختاماً إذا كان ضياء الدين رجب من الشعراء الذين أبدعوا في وصف البحر كمخلوق له من الأحاسيس الإنسانية فهناك - أيضاً - من الشعراء العرب من أبدع في ذلك مثل خليل مطران، الذي تحتاج قصيدته عن البحر إلى دراسة مستقلة، تختلف في عنوانها عن عنوان هذا المقال وكذلك في عنصر أو عناصر تناولها سواء من حيث النقد الانطباعي أو النقد الموضوعي الذي يخضع لمقاييس معينة وأدوات محددة. وما توفيقي إلا بالله.

-


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة