Culture Magazine Thursday  26/05/2011 G Issue 343
فضاءات
الخميس 23 ,جمادى الثانية 1432   العدد  343
 
غلوسا
قاسم حول
-

أطلق الإغريق على اللغة تعبير «غلوسا» أي اللسان وأخذ العرب منهم هذا المصطلح وأطلقوا على قاموسهم «لسان العرب» وعلم اللسانيات. والحكومات تسمي المتحدث الرسمي بـاسمها «الناطق الرسمي بلسانها».

والغلوسا رفدت لإنسانية بكل مصطلحات العلم والطب والفلسفة. وعندما اخترعت السينما مثلاً لم يجدوا لها تعبيرا غير المصطلح الإغريقي - Kenema أي الحركة وهي تعبير من «الغلوسا» الإغريقية. وثمة سمك شهي المذاق خال من الشوك يطلق عليه «غلوسا» لأنه بدون عظام مثل اللسان ويسميه الصيادون العرب في البحار باللسان أيضاً!

وهناك نوع من المسرح الإيمائي معبر وغير ناطق وله سحر وجمال في التلقي. وشارلي شابلن قدم أجمل أفلامه صامتة قبل أن يظهر الصوت في عالم السينما وتتحول كثير من الأفلام إلى مجرد ثرثرة وخاصة العربية منها والهندية حيث لا قيمة للمفردة الحوارية في بناء الشخصية وبناء الدراما.

وأم كلثوم التي غنت بلسانها الشعر الغنائي الجميل، سألوها مرة وهي لا تحب صوت فريد الأطرش، ما هو رأيك بفريد الأطرش؟ أجابت «يا ريتو أخرس»!

أنا عندما أكون في موقع تصوير لفيلم وثائقي أمنع منعا باتاً الحديث خشية أن يندس صوت المصور أو صوتي في لحظة نادرة كانت الكاميرا تسجلها فتخدش جمال طبيعة أو تشوه حقيقة موضوعية. وكان «المعدان» في فيلم الأهوار الذي صورته عام 1975 يمرون علينا, يسلمون أو يسألوننا فيجدوننا صامتين وهم لم يسمعوا ولا مرة واحدة منا صوتاً فانتشر الخبر بين غابات القصب وأكواخ الأهوار وسكان الأهوار أن جماعة خرسان أرسلتهم حكومة بغداد لتصويرنا. وبعد أن تأكد لهم أننا خرسان وفيما نحن نوجه الكاميرا وفي زورق يتهادى بين أكواخ القصب الكائنة فوق المياه كان ثمة سرير فوق أرض البيت النباتية التي تطفو فوق الماء وثمة تنور وامرأة توسع العجين بين كفيها وتلصقه في التنور الذي تتلألأ منه النار فيخرج خبزاً رقيقاً وردياً بدأت تتحدث معنا بقسوة وبصدق متناه هو أكثر من تعنيف لنا أن ننقل حياتهم الصعبة لتصبح كما تقول فرجة للعرب وعندما قالت لها صاحبتها «إنهم يسجلون صوتك» ازدادات في التعبير عن لواعجها وكان صدقاً من المشاهد الوثائقية النادرة وحركة الكاميرا تنساب في المياه حول بيتها الذي يطفو مع السرير والتنور فوق الماء. قالت كلاماً لا يستطيع أي كاتب حوار أن يبنيه في فيلم روائي فجاء متسلسلا عذباً وصادقاً. بعد هذا المشهد لا يحق لي أن أتدخل لكي أشرح حال أهل الأهوار! ولم «أقص» المشهد من الفيلم وكان مشهداً شد المشاهدين بعد أن سمحت المرأة لنفسها قول الحقيقة فأمتعتهم بلسانها الصريح ولم «يقطع» لسانها حتى مجازاً على شاشة السينما.

لم يكن «قطع» لسان الشاعر اليمني «وليد الرميشي» بالحادثة التي نمر عليها مرور الكرام بعد أن ألقى قصيدة ما بغض النظر عن مستواها الفني ومضمونها، بل ينبغي التوقف إزاء هذا الحدث المخيف في جميع تفاصيله. فالتصرف البشع وعرض المشهد على شاشة التلفزيون الأكثر بشاعة يعبران عن تخلف نموذجي في مسار تاريخنا العربي. كما وأننا لسنا بحاجة إلى مشاهدة المزيد من أفعالنا المتخلفة عبر وسائل الإعلام الحضارية. فإذا ما عرفنا بأن أصحاب الفعل هم أصحاب التغيير في ساحات التغيير والتحرير والغضب والتحدي والانتفاضة وكل لسانيات العرب الثرية بالمعاني الرنانة .. فماذا ننتظر إذاً بعد تغيير الدكتاتوريات العربية؟! أية فواجع ثقافية تنتظرنا نحن أبناء هذه الأوطان الحلوة في طبيعتها وتاريخها وشمسها التي لا تغيب عن النهارات الشرقية الجميلة.

لقد توجت المعارضات العربية الثائرة سلوك حكامها لتعيدنا إلى عهد السينما الصامتة كي نعبر بالإشارات الإيمائية عن أحزاننا المتوالية!

-

+ sununu@ziggo.nl - هولندا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة