Culture Magazine Thursday  26/05/2011 G Issue 343
قراءات
الخميس 23 ,جمادى الثانية 1432   العدد  343
 
(صراع الثنائيات)
الكتابة بين اقتناع الذات ورؤية الآخر
إبراهيم بن عبدالرحمن التركي
-

لم أُعد ورقة مكتوبة لهذا الملتقى لأنني أرتأيتُ أن أتحدث بتلقائية وأقوم بعرض تجارب في هذه القضية التي لو أردت أن أكتب فيها لوجدت مجالاً خصباً تحكمه لغة الثنائيات؛ فنحن بين الذات والآخر، ونحن أيضاً بين الاقتناع والرؤية، وهي ثنائيات تحتاج إلى كثير من الجدل بما قد لا نصل فيه إلى اقتناعٍ معين وتحديداً فيما يخص عملية الكتابة.

الكتابة ذات: حينما تتحدث أو حينما تكتب فإنما تتحدث بنفسك وتمارس ذاتك، ولكن؛ هل أنت مطلق الحرية لتكون ذاتك في عملية الكتابة كي تكتب ما تشاء أو لتقول ما تشاء وتتحدث بما تشاء، هذه قضية أخرى لأن لها بعداً آخر.

هناك بعدٌ مُستقِبل هو الآخر، وبعد موازٍ له يتمثل فيك أنت؛ أي في رقيبك الداخلي الذي يحول بينك وبين أن تكتب ما تشاء؛ فالشاعر يستطيع أن يحلق في أجواء مطلقة لكنه قد يجد نفسه واقفاً أمام مستوى معين من الإبداع لا يستطيع أن يتجاوزه لأن الرقيب الذاتي أو الرقيب الداخلي منعه، الكاتب أيضاً أو الشاعر أو المبدع أو من في فلكهم أمام قيود أخرى، وهي قيود الآخر الذي قد يكون من الأسرة ذاتها؛ فهناك من لا يستطيعون أن يتجاوزوا إرثَهم العائلي؛ فلديهم كتابات غير معلنة لأنهم لا يريدون أن يعرضوا بضاعة معينة قد يعيبها الأسرة أو الأصدقاء، وهناك أيضاً الرقيب الموجود داخل المنظومة الرسميّة وغير الرسميّة.

وكما تحدثت قبل قليل فأنا أحاول التماهي مع الواقع بعرض تجارب معينة؛ فقد صار لي في عالم الكتابة ربع قرن أو أكثر، وهي فترةٌ مليئة بما يُسعد ومليئة أيضاً بما يشجي، وفي معرض الكتاب الأخير بالرياض (مارس2011م) -على سبيل المثال- مررت بموقفين يفصل بينهما لحظات؛ التقى بي أحدهم فأشاد بمشروع معين أقوم عليه فشكرته، وطلب مني أن أهتم بهذا المشروع وأن أتوسع فيه وأحاول أن أتمثله بشكل أكبر، ولم أكد أغادر هذا الصديق «الأستاذ» إلا وآخرُ يطلبني ويقول لي: إنه مشروع فاشل، وبالتالى كنتُ بين من يقول لي: إنك ناجح بدرجة متفوقة وبين من يقول: إنك فاشل بدرجه مزرية، وهنا يقع الخلل في الاستجابة للحدّية الثنائية.

في تجربة أخرى في الإذاعة كان لدينا برنامج إذاعي اسمه « قناديل « وهو برنامج رمضاني خفيف طُلب مني أن أعده، وهو برنامج ثقافي، لأن البرامج الإذاعية مصنفة؛ برنامج ديني، برنامج إعلامي، برنامج ثقافي، وهكذا؛ كتبته وأعددت الحلقات الثلاثين كاملة، يعني بكل ما فيها ولم يبق إلا التسجيل، فذهب إلى الرقيب لإجازة مادته لكنه كتب عليه: إن هذا البرنامج عصي على الفهم، وبالتإلى فهو أعلى من مستوى المستمعين، وغيرُ مُجاز، وهذه القضية مهمة، فحينما نتحدث عن الواقع ونصنف سوانا، ونرى أن هذا أعلى وهذا أقل فإننا ندخل في دائرة ثنائية صعبة، طبعاً لم أرضَ، حينما أعيد لي البرنامج لكي أعدل أو أبدل فيه وانتهت علاقتي به من حينه...

مارست اقتناعاتي بحرية كاملة، ومارس الآخر أيضاً اقتناعاته، وهنا صراع الاقتناعات، أو صراع الرؤى حيث لا تستطيع أن تقبل لغة المستعلي، وقد استعدت مع جدلية «قناديل» حكاية الأستاذ أمين الخولي –رحمه الله– حينما قالوا له: إنك تقول ما لا يفهمه الكثيرون، وبالتإلى إنما يفهمك القلة؛ فرد عليهم بجملة بسيطة قال فيها: إنما أتحدث أو إنما أكتب لهؤلاء القلة؛ فبالتالى فضاء الكتابة مشكلة، حينما تجد نفسك محاطاً بالرقباء؛ الرقيب الذاتي وهو أنت وهو الذي يجب أن تحاسب عليه وتحاكم من خلاله لأن هذا هو رقيبك الذي من خلاله تستطيع أن تنطلق في فضاءاتك كما تشاء أو كما يتيح لك ضميرك ومن ثم أنت وشأنك، لكن هذا الرقيب الذاتي لا يُكتفي به وإنما ستجد نفسك أمام مجموعة أخرى من الرقباء الخارجيين، هؤلاء الرقباء يتصارعون؛ فبعضهم يفتحُ أمامك كل الإشارات وبعضهم يسحبك أو يجرك إلى الخلف وبالتالى ستجد نفسك داخل فضاء مطلق أو إطار مغلق.

هل تمارس كتابتك رغماً عنهم؟ نعم؛ وحينما يقال إن كاتباً معيناً أوقف عن الكتابة، فإننا نقول لهم: هو لم يوقف عن الكتابة وإنما أوقف عن النشر فقط؛ فأنت لا تستطيع أن تمنعني عن الكتابة؛ أنا سأمارس اقتناعاتي وسأكتب ما أشاءُ لكن السؤال: هل أنشرها أم لا أنشرها بالمطلق؟ هل أنشرها في ظل النظام الموجود أم أنشرها في ظل نظام آخر؟ أعتقد أنني أمتلك حرية كاملة لأمارسها وهي الحرية المرتبطة أيضاً بالضمير الذاتي وبالرقيب الذاتي وبما تربيت عليه وبما تعودت عليه وبالتزاماك بدينك وبمبادئك ومكوناتك؛ فما يكونني يختلف عما يُكوِّن شخصاً آخر، وبالتإلى أيضاً لا أستطيع أن أضع معايير صارمة تنطبق على الجميع.

ومن هنا لابد من الإيمان بعملية التنوع لئلا نتيه في دوامة الثنائية بين الاقتناع وبين الرؤية،والسؤال بصيغة أخرى: هل أنا مطالب بأن أكتب أو بأن أقول ما يرضي هذا الجمع مثلاً، هل المطلوب أن أنظر إلى الوجوه وأتفحصها وأقرأها وأرى ما يسرهم لأقوله أم أنني هنا لأقول ما أشاء؟ المعادلة صعبة لأنني لا أستطيع أن أنطلق فقط لأقول رؤيتي وحدها، لكنني أيضاً لا أستطيع أن أستعير عقول الآخرين وأقول أيضاً ما يشاءون.

العملية المقابلةُ في هذا الصراع، هي صراع الساكن والمتحرك، صراع الاقتناع والرؤية، صراع الذات والآخر. وكذا الكتابة التي تتمحور حولها القراءة.

الكلام السابق جرنا إلى صراعات كثيرة؛ فلو نظرنا إلى المشهد الثقافي، وبالذات المشهد الثقافي القريب، وتحديداً خلال ثلاثين عاماً مضت سنجد أن هذا المشهد تعرض لكثير من الإشكالات بسب هذا الصراع؛ لأن من يوجهك أو ينتقدك أو يطلب منك أن تكون شخصاً داخل صندوق هو أيضاً لم يرَ نفسه في هذه الحالة بل مارس ذاته متوحداً منفرداً وأراد أن يفرضها على الآخر، وفي نظري أن مثل هذه الثنائية المتصارعة تعطي القارئ أو المتابع حقاً في أن يتجاوز دوره، نعم له حق في أن يقول ما يشاء وله الحق في أن ينتقد ما يشاء، وله حق مثل حق الأخ الكريم الذي قال لي إن مشروعك فاشل؛ أو إن كتابتك فاشلة، هذا حقه الذي لا يجادل فيه، بل بالعكس يجب أن نشجع الآخرين على أن يقولوا، لكن يجب أن يقف عند هذا الحد، بحيث لا يصل المدى إلى أن يستعدى أو يستعلي، حتى الرقيب الذي يتصور وجوب أن تنزل إلى مستوى الجمهور، يتجاهل سؤالاً مهماً، من هم الجمهور؟، ربما كان الجمهور أعلى مستوى ممن يتحدث باسمه؛ ولذلك؛ المتغير الحالي هو في الإعلام الجديد، لأن الإعلام الجديد إعلام متجاوز بكل معنى الكلمة، ومن يدخل مثلاً على «فيس بوك» أو «تويتر» أو «المدونات» أو نحوها يدرك أن زواياها متسعة بل منفرجة.

أصبحنا نجد شباباً واعياً، يتفوقون بثقافتهم؛ ومعارفهم، وبإدراكهم، وحواراتهم، على كثير من الرموز وكثير من الأساتذة الذين توقفوا في محطة معينه لم يتجاوزوها، وهؤلاء الشباب، وهم في معظمهم شباب عشرينيون، نجبر على احترامهم لعمق ثقافتهم ،يعني أنا شخصياً ومن تجربة بسيطة «حيث أعد نفسي ناشطاً في الفيس بوك وفي تويتر»، وعندي في الفيس بوك أكثر من 1700 صديق وجدتُ منهم من أقدمه ليكتب في «الثقافية» متجاوراً مع أساتذة كبار، مع أن بعضاً منهم لم يتخرجوا بعدُ في الجامعة، وإذن فنحن أمام مدركات جميلة متجددة.

أحد الإخوان سألني في إحدى القنوات عن الثنائية الأخرى المواجهة للكتابة وهي القراءة، هل الناس يقرءون الآن؟ أقول -بملء الفم- نعم يقرءون أكثر مما كنا نقرأ، لأن الوسائط أمامهم الآن هي وسائط قرائية، فأنت لا تستطيع أن تقصر الوسيلة على الكتاب المطبوع لأن أمامك عدداً كبيراً من الوسائط، حتى الكتاب المطبوع سُخِّرت له التقنية؛ فكثير من الكتب الآن بدأت تدخل في «الآي باد» وبالتالى؛ تستطيع أن تحمل الكتاب معك أينما كنت، وكذا عملية البحث؛ فحين كنا نتناقش في قضية معينة نحتاج إلى مراجع كثيرة وإلى بحثٍ مضنٍ فيها، وكذا حينما تريد أن تحلل قضية معينة أو تدرسها أو تعرف قائلها أو تدرك أبعادها كنا نحتاج إلى وقت طويل، الآن لا نحتاج إلى هذا الوقت ونوفره لما هو أهم منه؛ بل إن التقنية واليدوية (وهنا ثنائيةٌ مهمة) دخلت في حوار المثقفين والعلماء، وقد كنت عند الدكتور عبدالرحمن العثيمين قبل أيام، وكان النقاش بينه وبين والدي -حفظهما الله- حول إعراب كلمة معينة في القرآن الكريم، وكنتُ -أمامهما- أتخيل المقارنة؛ فوسائطهم هي الكتب عبر عمليةٍ مطولة معقدة، بينما الشباب الجديد سيجد أمامه جميع الآراء بلمسة زر.

هنا بعدٌ إضافي، لأن أمامنا مجموعات مغيبة، لا ترونهم هنا لكنهم يتابعون، وأنا أتكلم عن تجربة ذاتية، لا نريد أن نُنَظَّر، نريد أن نتكلم عن واقعنا، عن تجاربنا، فهو حديث تجربة فقط؛ فبعد حفل الافتتاح وجدت رسائل من أماكن مختلفة من الوطن وخارجه استمع أصحابها إلى الكلمة عبر «الفيس بوك»، إذاً نحن الآن لسنا محصورين في زاوية ضيقة بل أمام ثنائية «المحليّة والعربيّة»، والتقليد والتجديد، والتقنية واليدوية، والجمهور الحاضر والغائب.

نحن مسكونون بالثنائيات المتعددة، وبعض هذه الثنائيات اللونيّة خطر، والكتابة ليس فيها أبيض أو أسود أو ليل ونهار، اللون الرمادي لون موجود لا نستطيع أن نتجاهله وهو مساحةٌ لهامش يتسع، يعني ليست المنطقة مقفلة على اللونين الحديين؛ بمعني أنك لابد أن تسير على هذا الخط فقط، وإن تجاوزت هذا الخط من اليمين أو اليسار فأنت تتعثر، لم يعد هذا مقبولاً.

المساحة تتسع والهامش يتسع، والمجال يتسع، والثوابت يجب أن تحدد بشكل دقيق حتى لا نخلط المتن بالهامش؛ بدلالة أن أشياء كثيرة لا يمكن مسها ولا يمكن الحديث عنها في يوم من الأيام ثم تبدل الحال، ولو كانت ثوابت فلن نتنازل ولن يتنازل غيرنا عن أن نضعها مساحة محرمة على من يريد أن يتجاوزها، لكن مساحة الثابت ومساحة المتغير ثنائية أخرى تحتاج إلى نظر.

جدل الثنائيات هو في الواقع جدل كبير، ولذلك سأطرح الجزئية الأخيرة فقط وأترك المجال لأن الوقت الذي أتاحه لي مدير الندوة وهو ربع ساعة يوشك أن ينتهي.

«مشكلة الحوار الوطني» وأنا أتحدث عن تجربة؛ فقد دعيت كثيراً للحوار الوطني واعتذرت لا لأني غير مقتنع بالحوار الوطني، لكنني غير مؤمن بالحوار المغلق، بالحوار الذي تضع شخوصه في قاعة مغلقة وتأتي بالمتضادين ليتحاوروا، أنا أريد أن يأتي المتضادون إلى المسرح نفسه، أنا أريد أن أراهم هنا وفي كل مكان، ونشهدُ الرأيَ يُواجه الرأي والاقتناع يُواجِه الاقتناع، أما حينما تغلق عليّ القاعة مع من أردت؛ بالتأكيد سأصل أنا و إياه إلى اقتناع، وحينما نفتح أبواب هذا الحوار أمام العامة يختلف الأمر، كما أننا حين نحاول أن نلغى الخلاف فإنه لا يلغى؟ بل هو موجود في الإعلام التقليدي بشكل كبير، وفي الإعلام الجديد بمساحات شاسعة تأذن بالتباين وتمهد للتلاقي؛ ولنتأكد أننا حينما نغلق هذه الصالة ونمنع عنها أحداً معيناً لا نريد أن نراه هنا، فإننا في الواقع لم نمنع إلا أنفسنا فقط، لم نمنع إلا هذه الدائرة المحدودة التي مساحتها لا تتجاوز 200 متر مربع؛ فهو موجود في المنابر والمنتديات والفضائيات.

وأخيراً فإن هذه التداعيات المرتجلة مجرد مجمل سريع لتجربة متواضعة جداً، وشكراً.

-

+ * محاضرة في مهرجان عنيزة الثالث للثقافة - مارس 2011

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة