Culture Magazine Thursday  26/05/2011 G Issue 343
قراءات
الخميس 23 ,جمادى الثانية 1432   العدد  343
 
أزمة فكر.. أم أزمة مفكرين؟
فيصل بن عبدالله السويدي
-

يأتي على الفكر العربي حينٌ من الدهر يُصاب بلوثة تشلُّ مفاصل التفكير وتغيّب مكامن الإبداع فيصبح المفكر مستهلكاً ما أبدعته عقول أسلافه وعالة على إنتاجها الفكري. إنها كبوة يتعرض لها الفكر العربي في بعض الحقب التاريخية، وليست تلك الكبوة الفكرية التي تغيّبه عن هرم الابتكار وليدة الأمس، فأحسب أن الشاعر الجاهلي عنترة العبسي قد أشجته هذه الظاهرة حتى دلف يبوح بشجوها شعراً قائلاً:

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهم

نشعر بامتعاض الشاعر إزاء جمود الإبداع الشعري في عصره إذا الشعراء انبروا يجترون طريف فكر أسلافهم من الشعراء من غير أن يكلفوا أنفسهم بإسهام فكري تجيره أقلام النقاد لهم وما ذاك إلا شلل فكري تمكن من التغلغل في ذرات التفكير الإبداعي، ولم يكن عنترة العبسي وحده من تبرَّم بتلك الظاهرة المقيتة في زمنه، بل هناك من أرّقه فشوها بين قومه، فشاطره همّها فجاءت نفثة مصدور قائلاً:

ما أرانا نقول إلا معارا

أو معارا من قولنا مكرورا

ودواليك حتى دار الزمان دورته ولم يكن عصرنا بمنأى عن ذالك الداء العضال الذي يحل بالفكر فيتنكب جادة الإنتاج والابتكار فينزوي في ردهات الاستهلاك الفكري عازفاً عن المشاركة في مضمار إبداعه، فالأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالأمة تباعاً من أقصاها إلى أقصاها تقابل بتبلد فكري مقيت يدعو إلى القلق والحيرة. حقاً إنها أزمة فكر يساورنا خوف على حاضر الأمة ومصيرها فهي تنذر بأزمة تجثم على الفكر العربي حتى أضحى يسير خلاف مهمته ووظيفته في الحياة فالوقائع التاريخية تثبت بما لا تجعل مجالاً للشك بأن الفكر يثب من وهدته، وينهض من كبوته في الملمات الجسام والأزمات الحالكات لمعرفة أسبابها بالنقد والتحليل المنهجي مقدمين حلولاً ناجعة ليقودوا المجتمع من خضم الأمواج المتضاربة إلى شطآن الأمان.

إن المتأمل لجمحات الفكر الإبداعية يدرك أنها وليدة معاناة، بل تمخضت في بيئة تحيطها ظروف قاسية ولكنها قفزت فوق حواجزها ومتاريسها متحدية أزماتها مخلدةً أثرها ونتائجها قروناً. والتاريخ يسعفنا بمفكرين خدموا أممهم تحت وطأة شظف الحياة وبؤسها ولكنها لم تثن المفكرين عن المضي قُدماً أن يعملوا فكرهم فيأتوا بما لم تستطعه الأوائل، ومن هؤلاء إسحاق نيوتن الذي خدم الفكر العلمي في ظروف عصيبة كانت تمر بها بريطانيا حيث انتشر وباء الطاعون في أرجائها مما شلَّ حركة الحياة الاعتيادية وأغلقت الجامعات والمعامل العلمية فدفع نيوتن إلى أن يهاجر إلى قريته ويحبس نفسه في حظيرة بقر خوفاً من سمِّ الطاعون الزعاف الذي أباد ملايين البشر ولكن نيوتن لم يُرح فكره أو يستسلم لتلك الخطوب المحدقة به، بل أطلق مارد الفكر فكان على ميعاد مع ميلاد مجد يُسعِد فيه البشرية جمعاء فابتكر القوانين الكونية الثلاثة المتعلقة بالحركة والتي وقّعت بإنجازه لمد ثلاثمائة عام لم يستطع أحد أن يضيف شيئاً عليها كما أن عزلته التي فرضتها عليه الرزيا القاسية آنذاك منحته فرصة أن يدعم علوم الرياضيات والفيزياء والفلك بنظريات مخلدة اسمه في عالم الابتكار الفكري. والحديث يسوقنا إلى مثال آخر لا يقل أهمية عن سابقه ألا هو فولتير أحد أبرز مفكري النهضة الأوربية الحديثة وأحد زعماء حركة التنوير. عاش فولتير وضعاً عصيباً وهي فترة استبداد الكنيسة ووصايتها على العقل وإبادة المفكرين الذين يتلمسون التنوير عبر قنوات علمية لا تقرها الكنيسة ومما زاد الحال سوءاً في حياة فولتير ذاك العراك الدامي بين الكاثوليك والبروتستانت، فكل طائفة تريد الوصاية على عقول المجتمع الفرنسي فرأى فولتير أنه من العار أن يكون الناس ضحية لإرادات متصارعة وضحية لتقاطع مصالح بين طائفتين كل طائفة تطمح أن تدير دفة الأمور لصالحها لتتفرد بالمال والجاه الاجتماعي فلم يذعن لواقعه المرير ولا للفكر الظلامي السائد، بل رأى أن من سمو الفكر وشرف الكلمة أن ينتشل مجتمعه من التيه إلى النجاة عبر شذرات أطلقها من فكره الثاقب وقولبها في سلسلة من المقالات تحت مسمى (اسحقوا العار) فكان يطبع منها مئات الآلاف من النسخ فزعزعت كثيراً من القناعات وغيَّرت المفاهيم وصححت قيماً سادت في عقول الشعب الفرنسي برهة زمانية، وبذلك تكون تلك المقالات الفولترية أنهت فترة وصاية الكنيسة على عقول الشعب الفرنسي مؤذنة ببداية عصر تويري بالعلوم والمعارف. ولم يكن تاريخ الفكر في البلاد الإسلامية أقل شأواً، فقد عاصر المفكرون الإسلاميون في عصر الطوائف بالأندلس تشرذماً وضعفاً وتلاشياً للمبادئ والسلوك ناجمة عن أزمات سياسية وصبوات اجتماعية ولكنها قوبلت بمفكرين مخلصين لأمتهم بذلوا النفسَ والنفيس لحماية مجتمعاتهم، وكياناتهم السياسية من الصراعات والانقسامات الطائفية فها هو ابن حزم الظاهري (نوَّر الله ضريحه) ينزل من برج العلم ليغشى المجتمع راسماً لهم منهجاً إصلاحياً يبثه عبر قنوات الاتصال بمجتمعه آنذاك وهي حلقات العلم ومضمار التأليف قال عنه عبد الكريم خليفة: (أدرك ابن حزم بعد سقوط الدولة الأموية أن ميدانه الصحيح في العمل للنهوض بالأمة يجب أن يتحول إلى ميدان الفكر ومخاطبة عامة الناس لإصلاح حالهم ومقارعة أصحاب الأهواء والمصالح الذاتية، وبهذا تحوَّل ابن حزم في منهجه الإصلاحي إلى أسلوب آخر غير آبه بالمصاعب ولا مكترث بخصومه من ملوك الطوائف)، وهناك جملة من المفكرين المبدعين الذين تجلت مواهبهم وهم يرزحون تحت وطأة المعاناة، بل إنها أوقدت فكرهم إبداعاً غير مسبوق ولم تطفئ جذوته كما نراه من مفكري عصرنا، ومن جملة هؤلاء الشاعر ابن خفاجة، وهو من الشعراء الذين آلمهم الهوان الذي حل بالمسلمين في زمانه فلم يعزف عنه بل قدح قريحته بفرائد شعره قائلاً:

عاثت بساحتك العدا يا دار

ومحا محاسنك البلى والنار

أرض تقاذفت الخطوب بأهلها

وتمخضت بخرابها الأقدار

وهناك الكثير من المفكرين الذين انقدحت سبحات فكرهم من خضم الصراعات السياسية والأزمات الاجتماعية أمثال ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع حيث كانت ملكة الفكر فياضة لديه بالرغم من مرض الطاعون الذي فتك بوالديه وكثرة التنقلات التي تعرض لها حيث جاب كثيراً من الأمصار الإسلامية ما بين تونس والمغرب وغرناطة مروراً بالجزائر وانتهى به المطاف بمصر فزعاً وهروباً من الحروب الطاحنة والويلات السياسة التي كانت تعصف بالعالم الإسلامي، لكن هذه الفواجع التي أحاطت بابن خلدون أحاطت الأسورة بالمعصم لم تفت في عزيمته ولم تفتك بخلاياه الفكرية، بل كانت وقوداً تدعم عطاءه الفكري الذي تجلى في مقدمته الشهيرة والتي تُعرف بعلم الاجتماع والتي لا تعرف الإنسانية نظيراً لها حيث أتيح له تعقب تاريخ الشعوب التي أُتيح له الاحتكاك بها، والحياة بين أهلها، ورصد تلك الظواهر في تاريخ هذه الشعوب حيث أسس مفاهيم المجتمع المدني وبيَّن أسباب ديمومتة وشخَّص الأدواء الاجتماعية التي تنذر بسقوط المجتمعات من قمة الهرم الحضاري، وهي ما أطلق عليها في مقدمته (واقعات العمران البشري) ومثله ابن طفيل والفارابي والقائمة تطول بذكر المفكرين الذين لم يألوا جهداً في قدح فكرهم ليوقدوا دروب عامة الناس من تيه الضياع والحيرة.

لكن السؤال الذي يكوِّنُ فوق رؤوسنا سحابةً تمطرنا لوعة وحسرة هو: أين مفكرو العصر من أزمة الصراعات السياسية والانشقاقات الاجتماعية الراهنة، ما بالهم يجدفون عكس القوانين الطبيعية والسنن البشرية؟ سؤال يخلق في ذاتي حزمة من التكهنات في الإجابة، أتراهم اتخذوا أزمة الصراعات السياسية الراهنة حجة يتاورون عن الأنظار وينكفئون على الذات نادبين حظهم العاثر في الحياة. أم يا ترى المجتمع ضرب صفحاً عن التفاعل مع أطروحاتهم الفكرية مما نجم عنه فشل ذريع في ترجمة رؤاهم ونظرياتهم إلى أرض الواقع فارتدت تلك الظاهرة إلى انتكاسة في مشروعهم الفكري أم أن المفكرين في زمننا يشكون جدباً وقحطاً في حرية التفكير مما جعل بنيات الفكر تجهض فلم تر النور قبل أوانها لكونهم يعيشون في شك من الليل مظلم أحسب أن هذه المعوقات لا تبرر غياب مشاركتهم الفكرية ولا تشفع لهم بالتخلي عن مسؤولياتهم، فالأمة تمر بمنعطف تاريخي حاد ثم تقابله تلك النخب بصمت مطبق، إنه مشهد ثقافي مأزوم يخلق لدى كل ذي لب أسى وشجى على واقع مرير تبلدت فيه الأحاسيس وأُلجم الفكر وصمت العقل ملياً وأغمد القلم فما عادت الشكوى سوى سراب يتبدد في فضاء التخلف الرحب فلا أجدني أتمثَّل إلا قول الشاعر:

وغيضٍ على الأيام كالنار في الحشا

ولكنها شكوى الأسير إلى القيد

-

+ Faisal_vip1973@hotmail.com - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة