Culture Magazine Thursday  07/03/2013 G Issue 399
فضاءات
الخميس 25 ,ربيع الثاني 1434   العدد  399
 
تلقي الجنون في اللغة
د. أحمد علي آل مريع

 

أ- اللغة سلطة:

اللغة - كما يقول رولان بارت- سلطة تشريعية، واللسان قانونها؛ وقد لا نلحظ ذلك الوجود المتسلط؛ لأننا ننسى أن كل لسان تصنيف، وأن كل تصنيف ينطوي على قهر. وليس الكلام أو الخطاب تبليغًا -كما قد يُظنَّ- ولكنه توجيه وإخضاع معممان، لأنه منظومة مكونة من: مفردات، وعلاقات نحوية وبلاغية، وتراكيب وترميز: تؤثر في طريقة رؤية أهلها للعالم، وفي كيفية مفصلتهم له، وبالتالي في طريقة تفكيرهم، إننا نفكر كما نتكلّم، الشيء الذي يعني أن اللغة، التي تحدد قدرتنا على الكلام؛ هي نفسها التي تحدد قدرتنا على التفكير(1).

وهنا تبرز العلاقة بين اللغة -بوصفها وسيطًا معرفيًّا- وبين الذّات المدرِكة وبين عملية الإدراك نفسها، فإذا كانت اللغة من حيث النشأة مقترنة بالذات «لحظة الوعي الأولي» الفردي ابتداء؛ كون الإنسان – كما يقول تيري إيغلتون - سابق نوعاً ما على تاريخه وشروطه الاجتماعية التي تنبع منه، فإنها بعد ذلك تشكل قالبًا إدراكيًا صلدًا يوجه التفكير، ويحدد أنماط الفهم تجاه الأشياء. أي: إن اللغة تكون مكونًا بالنظر إلى خضوعها إلى لحظة الوعي الفردي/ الأولي الذي يصنعها، وتكون مكوِّنـًا بالنظر إلى تأثيرها كـ: عقل/ ينشئ سلطة معرفية واجتماعية، تتحكم في رؤية الأشياء وفهمها؛ بصفتها جزءًا من المخزون الثقافي العام الذي يعود إليه الأفراد، وإذا جاز لنا أن نستخدم مصطلح أهل الحديث فإنهم «يتحملونه» جزءًا من ثقافتهم عند ممارستهم لأنشطتهم المعرفية والاجتماعية المختلفة، بغض النظر عن وجود الأشياء أنطولوجيًّا في العالم الخارجي. فالواقع ليس هو الموجود بالفعل، بل يتحقق في: القدرة على فهمه وتصوره في الذهن، ومن ثم فهو متعدد في الذهنيات الثقافية؛ تبعًا لتلقيه وللقدرة على فهمه. ولأن تَعَقُّلِ الشّيءِ (= الإدراك) ليس الشيء ذاته، بل يتحقق كما يقول الفاربي بـ»أن تُنْتَزَعَ الصور في المواد عن موادّها، ويصير لها وجود آخر غير وجودها الأول».

ولكي تكون هناك وقائع تستحق الوجود فـ»لا بدّ من وجود جهاز من المفردات، يمكن وصفها بها. ومن دون جهاز قبلي من المفردات، التي تصفها أو تنقلها إلى موقف ما، لا يمكن أن تكون هناك وقائع من أيِّ نوع». وكما يقول جياني فاتيمو: «كل تجربة في الحقيقة هي تجربة تأويلية»، فنحن إذن بإزاء وعي لا أحداث، وتأويلات لا وقائع؛ إذ «لا يوجد وقائع، وإنما تأويلات» بحسب المقولة النتشوية المستفيضة...

لذلك قيل: إن ترميز الشيء مبنيٌّ على: موت الشيء ذاته، وعلى نقصانه. فالوعي عند الإنسان ليس شيئًا معلقًا في الهواء! بل يرتبط بما سماه «لاكان» من قبل: «وسيطًا بينه وبين العالم الخارجي».

ومن ثمّ جاز لنا أن نقول: إن فكرة التسمية إذا كانت اعترافًا بالشيء ووجوده فإنها- من جهة أخرى- انحراف عن حقيقته وتنوعه في الواقع، أو ما يمكن رصده وتأمله على مستوى الذهن، إلى تمثله في الذهنية الثقافية كمفهوم قارّ يتم تعميمه بنمطية بالغة على المستهلكين. ومن ثم يمكن القول بأن اللغة – من هذا الجانب- سلطة تشريعية، لأنها تحمل في غضون التسمية «تجربة الوعي بالشيء»، والوعي بالشيء هو في محصلته النهائية: سلسلة من أفعال الترميز والتأويل والتصنيف والإكراه...

ومن هنا فإن الوقوف على تلقي اللغة للجنون من خلال أنظمتها التركيبية وتقسيماتها وصيغها يساعد على تلمس الوعي بالجنون في الثقافة؛ لأن اللغة بتقسيماتها وصيغها وأنظمتها التركيبية كون دلاليّ، و«تنقل إلى الإنسان نسقًا من القيم»، وهي إحدى أهم المؤسسات الثقافية التي تصنع القوالب الإدراكية ووجهة النظر للمنتمين إليها...

(1) هذا القانون ساقه د. محمد عابد الجابري بالترجمة عن آدم شاف، واعترض د. جورج طرابيشي على لفظة «التحديد» في تعليق الجابري لأنها تتعارض مع رأي شاف، الذي استخدم لفظة «تأثير» تخفيفًا لمبالغات المدرسة الألمانية، وتحاشيًا لاستخدام لفظة «تحديد» التي هي - في رأيه- جبرية أكثر مما ينبغي. راجع: د. محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، و د. جورج طرابيشي، نقد نقد العقل العربي- نظرية العقل.

(2) المقولة لنيتشة، نقلاً عن: محمد علي الزين، تأويلات وتفكيكات: فصول في الفكر الغربي المعاصر، ص18.

* * *

(يتبع 2)

أبها

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة