Culture Magazine Thursday  07/03/2013 G Issue 399
فضاءات
الخميس 25 ,ربيع الثاني 1434   العدد  399
 
الانفلاتُ الدلاليّ ودورة المعنى والمفهوم
ياسر حجازي

 

(أ)

لعلّ الشكّ الذي يميّز الإنسان عن باقي الكائنات الحيّة يبدأ بالدلالة ويمضي عمره شاكّاً بها ومقلّباً إيّاها -وسيلةً وغايةً- خدمة لنواياه شخصاً ومحيطاً. وهذا التقلّب والشكّ في دلالة الأشياء والأفعال خلقَ من سكونها في مداها الكينوني فضاءَ الوعي المعرفيّ للإنسان عبر «التفاعل الدلالي» بين فواعل المعنى والمفهوم، ثمّ المصطلح الجدلي؛ والحكمةُ أنّ دلالة الأشياء كما حال الإنسان والحقيقة لا يمكن أن تكون مستقرّة ونهائيّة؛ فكلُّ قرارٍ انتهاءٌ يُعارض طبيعة الكينونة في مدى الأشياء والأفعال، وفضاءات الصيرورة والسيرورة معاً.

وتبقى المفردة المعجميّة بمفردها عاجزة عن تجاوز مأسوريّة دلالتها المضبوطة على أصلٍ أو أصلين، بينما تكون مبدعة وقابلة للتكاثر الدلالي عبر آليّة الاستناد في التركيب البنائي للكلام؛ فكلّ مفردة تحمل قابليّة التعدّد والتولّد الدلالي من خارج أصلها عند دخولها في علاقة بدلالة مفردة أخرى.

ويبقى الاتّفاق – فيما هو شائع بين أصول المفردة- محصوراً في طبيعتها ووظيفتها الافتراضيّة أو المتّفق عليها اعتياداً وألفةً، أمّا مجازها وتأويلها فناتج خارجيٌّ استناديٌّ؛ وهذا الاتّفاق الاعتياديّ الساكن يتحوّل بالارتباط إلى فضاء أوّلي ذي دلالات: (استناديّة وانتسابيّة وبنائية): بحيث إنّ (أ) الدلالة الاستناديّة: هي الدلالة المضافة على الأصل نتيجة استناده على دلالة أخرى يضطرّ للارتباط بها ضمن السياق البنائي. (ب) والدلالة الانتسابيّة: هي نسبة لنيّة الفاعل المَعْنِي بالمعنى الذي لأجله بنى الكلامَ والمتنَ، (ج) أمّا الدلالة البنائيّة: فإنّها الدلالة التي يحملها سياق البناء الكلامي بناءً لغويّاً ومجازاً وتأويلاً، بغضّ النظر عن نيّة فاعل الدلالة وعن دلالة كلّ مفردّة على حدة. وهذا الفضاء المتعدّد الدلالات: هو فضاء «المعنى والمفهوم» وفيه تنشأ العلاقة التأثيريّة والاستناديّة بين فاعل دلالة المعنى وبين فاعل دلالة المفهوم؛ ويكون التوافق في دورة الكلام بين الفاعلين في محلّ الفضاء نفسه، بينما يكون التعارض سبباً رئيساً في نشوء فضاء المصطلح الجدلي غاية في تأطيره، وإيجاد ما يمكن أن يزيح التعارض الدلالي بين فاعل المعنى وفاعل المفهوم؛ وتعود أسباب التعارض إلى: (أ) تباين نوايا الفاعلين، (ب) تفاوت الخزن المعرفي واللغوي، (ج) اختلاف مرجعيّات (التفكيك والربط)، (د) غياب الضابط الدلالي المحايد، (هـ) عمى الترادف (و) غياب معجم السجل التاريخي لتطوّر الألفاظ. وهذا الأخير سبب في اللغات التي ليس لها معجماً لتاريخ تطوّر ألفاظها، كما هو حال اللغة العربيّة؛ وكلّما زدات نسب هذه الأسباب فإن التعارض يكون سائداً في فضاء المعنى والمفهوم، ويؤثّر على قيمة تداول المعرفة ويجعلها عاجزة عن إتمام أبجديات أولى في المعرفة؛ وشيءٌ من هذا في قولهم: (حوار طرشان) أو (عنزة، ولو طارت)!!

(ب)

ونحن حينما نبحث في معنى المتن فإنّما ندرسه انطلاقاً من نيّة فاعل الدلالة، وحينما نبحث في المفهوم فنحن نُحلّل ما فُهِمَ من المتن وشاعَ من الدلالة؛ وهذا تفريق جوهريٌّ لأجل معرفة الفجوة الهائلة بين معاني المتون العربيّة والمفاهيم الناجمة بالدوران حولها.

ولئن كان من البداهة أنّ دلالة المفردة الإفراديّة تتطوّر تأثّراً بتفاعل الإنسان بالمكان وبالزمان، وباتّساع الخزن المعرفي تنظيراً وتجريباً، فإنّها واقعة أيضاً تحت تأثير أفقيّ بالاستناد إلى نيّة فاعل الدلالة المَعني بتركيب الألفاظ خدمة للدلالة التي يعنيها من وراء تصدير الكلام-المتن، وهو ما يرتبط مع (نشوء المجاز) وكأنّه المسؤول عنه، وشيءٌ من هذا في سؤال فاعل الدلالة: (هل وصل المعنى؟) أو تبريراته: (لم أَعْنِ، فهمتَ عكس ما عنيتُ، وهكذا)، وذلك عند نشوء تعثّر أو اعتلال بين المعنى والمفهوم؛ لأنّ فاعل المفهوم يتلقّى الدلالة ويقوم بتحويلها إلى دلالة مفهوم عبر آليّتي التصوّر والتأويل، فهو يعتمد على تصوّر المعنى المستورد ويعيد تصديره إمّا توافقاً أو اختلافاً، بناءً على ما يتصوّره بالاستناد إلى مرجع الخزن المعرفي واللغوي وشيء من نيّة الفاعل؛ وهذا الذي يجعل الدورة الدلاليّة بين فاعل المعنى والمجاز وفاعل المفهوم والتأويل مفرزةً لانفلاتٍ دلاليٍّ يصعب ضبطه داخل هذا المستوى من الفضاء. حينذاك، فإنّ دلالات الكلام والمتون تتطوّر أفقيّاً إضافة إلى تطوّرها رأسيّاً عبر تعاقب الزمن والمعارف والحضارات.

• المعنى إذاً، تقصّدٌ في الدلالة المَعنيّة، فهو خطابٌ (وقصديٌّ)، والمفهوم: تصوّرٌ في الدلالة المفهومة، فهو تصوّرٌ (وتقديرٌ).

والمقصد من هذا الاستهلال قراءة نشوء فضاء المصطلح: من مدى اللغة، وفضاء المعنى والمفهوم، حتّى فضاء المصطلح الجدلي، وطموحه الوظيفي بضبط الاختلاف وتنظيم فوضى الانفلات الدلالي الواقعة في فضاء المعنى والمفهوم إلى فضاء جدليّ طامحٌ لتأطير الموضوعات المعرفيّة وحصر الجدل داخل حقل الفكرة/ الموضوع. لكنّ ضرورة وجود المصطلح ليست كفاية أو حتميّة لإنهاء الاختلاف، والعودة اكتفاءً بفضاء المعنى والمفهوم؛ والحجّة قائمة على استحالة توافق الدلالة في الموضوعات كلّها بين فاعلي المعنى والمفهوم، لأنّ طبيعة دورانهما حول الدلالة تولّد دلالات استناديّة وبنائيّة وانتسابيّة متعدّدة ومختلفة عليها بين أصول ومجازات وتأويلات، وهو ما يُفضي إلى ضرورة وجود فضاء المصطلح الجدلي طموحاً في الحدّ أو محاصرة الاختلاف، إنّ كان واقعيّاً عاجزاً عن إنهائه.

(ج)

وأزعم أنّ إشكال الانفلات الدلالي وضعف الضبط والتأطير المصطلحي في العالم العربيّ ناجم عن: (أ) غياب المعرفة والقوّة المركزيّة، فانحطاط أيّ أمّة -سياسيّاً واقتصاديّا وثقافيّاً- يزيح قوّتها المعرفيّة والعلميّة. (ب) استيراد المعرفة والمصطلحات وسذاجة أسلمتها أو تعريبها دون مرجعيّة معرفيّة متراكمة، وهذا أقرب إلى التشويه المعرفي من المنفعة المعرفيّة، (ج) الإهمال السياسي لقوّة اللغة في الفضائين: (المعنى والمفهوم) و(المصطلح الجدلي)، (د) البتر اللغويّ والمعرفيّ التاريخي بين المعاجم العربيّة وفضاء المعنى والمفهوم، والمصطلح الجدلي، وهذا البتر يسدّه المعجم التاريخي النشوئي الضابط لتطوّر الألفاظ وتاريخيّتها، بحيث يتمّ الضبط على مستويات عدّة: (ظهور اللفظة، دلالتها عند النشوء، تحوّلها تاريخّيّا، موت الدلالة الأولى، وهكذا دواليك)؛ وهو ما ينقص المكتبة العربيّة اللغويّة-المعرفيّة. (وعلى أمل إنجازه، إذ أعلن المركز العربي للأبحاث والدراسة في الدوحة عن مشروع المعجم التاريخي أواخر نوفمبر سنة 2012 بمشاركة نخبة كبيرة من اللغويين ومتخصّصي الكمبيوتر).

تعمل فلسفة المصطلح إذاً لأجل تأطير الاختلاف الناشئ في فضاء المعنى والمفهوم للمواضيع ذات الاختصاص، أو للمواضيع الفكرية الجدليّة، ولذلك فإنّه يعمل في المنطقة التي يتغاضى عنها المعجم بوصفها من خارج وظيفته، أقصد منطقة التعارض بين الدلالات على مستوى الأفكار والمعارف، لأنّ المعجم يتجاوز مأزق التعارض الدلالي حينما يتعامل بتجرّد ولامبالاة مع الترادف والارتباك الوظيفي بين الأصل والمجاز والتأويل والمعاني والمفاهيم التي أنتجها فاعل الدلالة، وما قد يخلّفه من تيهٍ في مجالات المعرفة والفكر أو كلّ نطاق جدليّ، بينما يعمل المصطلح في هذه المنطقة التعارضيّة، وإن بدا أنّه يُصدّر تعريفاً فتلك وسيلة لأجل الغاية المتمثّلة بمناقشة الجدل والإشكال نفسه؛ وهنا لا يكون التعريف ضابطاً وحكْماً نهائياً في طاولة خلاف جدلي، بل يكون التعريف كاشفاً لوجود الجدل ومثبّتاً له وجزءاً منه.

لذلك، ليس صحيحاً تضمين الاتفاق القطعي في تعريف المصطلح لأنّ الاتفاق -إن وقع- فعادة ما يكون وقوعه ناقصاً، ومردُّ النقصان أنّه مرتبط بطائفة ممّن توافقوا على صلاحيّة هذا الضبط، أو أنّه اتّفاق مرهون باشتراطات وجوده الظرفيّة والمعرفيّة. لذلك فصناعة المصطلح لا تلغي الاختلاف إنّما تنظّمه، بحيث يمكن معرفة الدلالة الفكريّة التي يحملها الفاعل الجدلي حين يضبط منطق المصطلح قبل الشروع بمناقشة فكره، لكنّ ذلك لا يعني أنّ الفاعل الجدلي الآخر يوافقه الضبط. وضروريّة الضبط هنا أنّها كاشفة لمنطق الفاعل وهويّته، وهو ما يجعل الجدل ذا فاعليّة بحيث يتّضح منطق وهويّات الفاعلين الجدليين، وإنّ تعدّدت دلالاتهم لمصطلح بعينه، وهو ما يثبّت المصطلح عند جماعة دون أخرى، ويؤكّد اختلاف المصطلح بين الجماعات والهويّات.

Yaser.hejazi@gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة