Culture Magazine Thursday  07/03/2013 G Issue 399
قراءات
الخميس 25 ,ربيع الثاني 1434   العدد  399
 
دبلوماسي من الحجاز
د. زهير محمد جميل كتبي

 

أهداني أخي معالي الدكتور نزار بن عبيد مدني وزير الدولة للشؤون الخارجية والدبلوماسي المعروف نسخ من مؤلفاته:

1- دبلوماسي من طيبة، محطات في رحلة العمر.

2- قضايا ومواقف في الفكر والسياسة.

كتب بها أبعاداً سياسية، وفكرية ،وثقافته، ونفسية، واجتماعية جيدة للغاية. تحكي نفسية ابن المدينة المنورة، الإنسان المبارك عبر ذهنية وصافية. كثير من كلماته تفعل في بعضنا فعلتها. بها إرهاصات ونتائج فكر نظيف.

السيد نزار مدني صاحب وقائع ثقافية وسياسية وفكرية واجتماعية ثقيلة. لم يسع للفوز بحفنة من الضوء أو الصخب الإعلامي، ولكنها هي التي ركضت إليه بحكم منصبه السياسي المهم. وهو المواطن المخلص الحر والشريف الذي تشرف بإلقاء كلمة بلاده في كثير من المحافل والمناسبات الدولية، فشرف الوطن وتشرف الوطن به. فكان أنموذج للدبلوماسي الحضاري المتزن.

بالنسبة لكتابه الرائع / دبلوماسي من طيبة، محطات في رحلة العمر، يحمل ثقافة ذات ذهنية متشعبة الأطراف تحتل مساحة مناسبة من جيل الرجال الكبار من الدبلوماسيين السعوديين الذين ارتقوا بسمعة بلادنا نحو المكانات المحمودة والمرموقة. ذهنية وطنية حافظة للمعروف والولاء الوطني. ذهنية احترمت القيم والتقاليد والعادات الاجتماعية.

لا أعرف السيد الدكتور نزار مدني عن قرب ولا تربطني به صداقة أو معرفة سوى متابعته كرجل دولة يسلط الإعلام السعودي وغيره عليه الأضواء باعتباره شخصية دبلوماسية محترمة ومتزنة تقوم بأدوار معلنة، وربما مخفية حسب مقتضيات العمل السياسي. بيد أنني أحمل له قدرا ً معينا ً وكبيرا ً من المحبة والتقدير والاحترام والاعتزاز والافتخار بهذه القامة السياسية السعودية.

فعندما اكتب هذا المقال أفعل لقيمة أعماله الثقافية الفكرية والإبداعية والسياسية، وخاصة أدب كتابة المذكرات الشخصية السياسية التي تبرز التجارب المختلفة. والمؤسف أن كبار المسؤولين ببلادنا يخافون ويرفضون هذا النوع من ممارسة كتابة المذكرات.

وأزعم - هكذا أعتقد - أن نزار مدني طراز خاص ونادر من المثقفين السياسيين السعوديين. والذي برز اسمه في العمل السياسي تدريجياً.

أرى في هذا الرجل القامة.. [شخصية فولاذية].. ،العالمية، وهو إنسان من طينة نادرة وجيدة ومحترمة واستطاع رغم طول مدة خدمته للوطن أنه لا يثير حوله أي نوع من المعارك. وعندما تابعت رحلاته الحكومية أو الرسمية أشفقت على صحته، وعمله ومشواره. أكد لي أبدا أن نزار مدني الأقوى والأكثر جلدا ً لذاته ومقاومة ومكابرة من أجل خدمة وطنه. والارتقاء بسمعته وصورته فقد يواصل الليل بالنهار عملا وسفراً، ولديه قدرة رهيبة من الصبر والاحتمال والتحمل.

فيذكر في كتابه / دبلوماسي من طيبة، وذلك بالصفحة (138 – 139) التالي: (من تلك الدروس أن الصبر والتحمل وعدم التسرع (وأكل التمر حبة حبة) كما يقول المثل الشعبي الدارج هي من الأمور التي يجب على كل شاب في بداية حياته العملية أن يضعها نصب عينه وأن يعض عليها بالنواجذ. فالإنسان إذا بدأ صعود الجبل من السفح يجد أن كل خطوة يخطوها إلى أعلى تجعله أشد ثقة وأكثر قدرة على بلوغ القمة من الشخص الذي يبدأ من منتصف الطريق.

بمعنى آخر، فإن الإنسان إذا نال نصيبه من المشاق والمتاعب والصعوبات في باكورة حياته العملية، سوف يكتشف أن كل مشقة وصعوبة ،ومشقة يمكن أن يلاقيها في المراحل التالية لن تكون بأي حال من الأحوال أسوأ مما واجهه في البداية، لأن أي شيء بعد طعم العلقم لابد أن يكون مذاقه حلو. وتحضرني في هذه المناسبة حكمة كنت قد اطلعت عليها في أحد كتب التراث تصور بدقة متناهية المعنى الذي أردت إبرازه والهدف الذي رغبت تسليط الضوء عليه في هذا السياق، فحوى الحكمة أن أعرابيا ً عجوزا ً أوصى ابنه وهو على فراش الموت فقال: يا بني إذا أردت أن تعيش حياة ناجحة فلا تشرب سوى الماء النقي الزلال، ولا تأكل إلا الطعام المفيد الطازج، ولا تركب غير الجمل الأصيل المريح، فرد الابن قائلا: يا أبي كيف يستطيع رجل فقير مثلي أن يفعل كل ذلك؟. قال الأب: تحمل العطش إلى النهاية عندئذ يصبح كل ماء تشربه زلالا ولا تأكل قبل أن يعضك الجوع بقسوة، عندئذ يصبح كل طعام تأكله شهياً، واستمر في المشي حتى يهدك التعب، عندئذ ستجد أن أي جمل تركبه أصيل ومريح.

أما السبب الثاني فهو أن تلك السنوات الثلاث أتاحت لي فرصة التعرف على صغار الموظفين قبل كبارهم، ومعرفة معاناتهم وتلمس تطلعاتهم من جهة، ومشاعرهم ونظرتهم لغيرهم من الزملاء وخاصة كبار الموظفين بمن فيهم السفراء من جهة أخرى، وتلك كانت ثروة ما كان يتسنى لي أن أحصل عليها وخبرة ما كان يمكن أن أكتسبها بأي وسيلة أخرى.

وأكاد أجزم أن تلك الفرصة هي التي جعلتني منذ ذل ك الوقت وإلى أن تسنمت أعلى المناصب في الوزارة، لا أميز في التعامل بين صغار الموظفين وكبارهم، وأحرص كل الحرص على المساواة بينهم، سواء في أسلوب التخاطب، أو في طريقة التعامل، أو في مستلزمات ومقتضيات التواصل. بل أكاد أكون أكثر تعاطفا ً وتفهما ً ومراعاة شعور صغار الموظفين من كبارهم.

لا يمكن أن تتعدد كل تلك الخلفيات والتبعات والأبعاد والطبائع في مكونات نزار مدني دون أن يملك أحاسيس وانتماءات مميزة خلقت منه هذه الشخصية المميزة والمتفردة والفذة.

وأزعم أن الدكتور نزار مدني يعد أحد أرقى الشخصيات الدبلوماسية، وهو يملك مكونات شخصية نهضوية وتنويرية. خاصة انه ملتزما ً التزاما ً قويا ً بالدور السياسي للفكر السياسي السعودي، والذي يعد أحد أهم ركائز مكوناته الحقيقية. ولقد حرص نزار مدني على أن تضمن الثقافة السعودية حضورا ً عالميا ً وإقليميا ً في نصوص خطاباته وأحاديثه الإعلامية. صحيح انه لقي صعوبات كثيرة ومصاعب أكبر كما ذكر في كتابه المذكور حيث يذكر في الصفحة (297) التالي:

(بداية لم أكن اعلم أن سنوات مرحلة الرياض هذه سوف تحفل بما حفلت به من إنجازات ونجاحات، وسوف يتحقق فيها ما تحقق من نتائج ومكتسبات، وسوف تزدان بما ازدانت به من أسعد المناسبات، سواء على الصعيد الشخصي أو العائلي أو على الصعيد الوظيفي والاجتماعي، ذلك أنني كنت في بداية تلك المرحلة ما أزال حديث عهد ببعض الأحداث العصيبة التي ألمت بي قبل قدومي إلى الرياض، والتي لم أكن بعد قد تخلصت من آثارها، أو تمكنت من التغلب على ما فرضته علي من مشاعر القلق والضيق والاكتئاب، خاصة فيما يتعلق بالأزمة الصحية التي تعرضت لها والتي كان لها آثار سلبية على نفسيتي وروحي المعنوية ولكن الأحوال بدأت تتحسن تدريجيا ً بعد الانقلاب الذي أحدثه القرار التاريخي الذي اتخذته في أعقاب تلك الأزمة باللجوء إلى الله سبحانه وتعالى في كل ليلة وقراءة جزء كامل من كتابه الكريم، والإيمان بأن ما أصابني لم يكن ليخطئني، وما أخطأني لم يكن ليصيبني أدى ذلك الانقلاب إلى تغيير جذري في كياني وشعوري وفكري حيث أزال عني الغم وأذهب الحزن، وبدأ تدريجيا ً في تحويل بواعث القلق وبوادر التوتر ومشاعر الاكتئاب إلى استقرار مكين في حالتي النفسية، وارتفاع ملحوظ في روحي المعنوية، وتطلع متفائل نحو الغد والمستقبل.

ورغم كل تلك التحديات والمشاق فإن نزار مدني يمضي ولا يرى أمامه غير وطنه فلقد مضي في طريق التعب ولم يكل أو يمل وتبرهن وطنيته أنه مواطن صالح مخلص حتى الصميم.

ومن خلال قراءتي لكتابه وجدت أن ما لا يدركه الكثير هو مقدرة نزار مدني على تحجيم الحزن في داخله بشكل قوى، وإخفاء الأسى عن أعين غير الإنسانية، وهذه قدرة لا يملكها الكثير من الناس. وهو شخصية جعلته ثقافته السياسية ترتكز على عدم الخضوع للأهواء في العمل السياسي والإداري، ولا يربط أي نوع من النزعات الخصوصية في إدارة مكوناته الشخصية التي ولد وترعرع ونشأ وتربى عليها.

نص نزار مدني في بعضه نجده قد استفاق على وجع وآلم، وربما نام وهو يحلم بتحقيق حلم لوطنه، وأيضا نصه الكتابي يكشف أن نفسه مطمئنة تجاه هويته السياسية وهو مشبع بها لدرجة متقدمة. ونصه يمارس الحنين للوطن كحالة ذهنية مستمرة.

سيظل السيد الدكتور نزار مدني واحد من الذين يمكث اسمه وفعله في..

(الذاكرة الوطنية)..، إلا أن كل شيء يتراجع أمام.. (همه الوطني)..، وهذا الوطني الكبير لم يفقد انغماسه في.. (الهم الوطني الداخلي)..، ولكن استمر في متابعة شئون وطنه بحيوية فائقة بل وبتميز مقنن، وهذه قدرة قد لا تتوفر في الكثير من المسئولين في بلادنا.

أكدت مسيرة الدكتور نزار مدني من أن الإنجاز الوطني الكبير يحمل عادة في داخله متسعا ً من المساحة الإنسانية، الذي تصنعه المسئولية الفردية التي تتواصل مع القيادات التي تحفز ولا تحبط.

استطاع نزار مدني أن يقدم لنا عبر هذا الكتاب الثقافة السياسية السعودية عن طريق التجربة والموقف الدولي والإقليمي والوطني. رغم أنه يعمل تحت ظروف ضاغطة وصعبة للغاية. خاضها بذهنه المتيقظ ورؤيته الصافية للأمور. إلا أنه كان ماهر في الفحص والرصد والتحليل.

سنظل فخورين ومفتخرين دائما أن الدكتور نزار مدني الدبلوماسي السعودي الشهير يعد أحد القادرين على رصد وتدوين ما يستحق تدوينه من أحداث ومواقف. فهو يسبقنا تقديره واحترامه فهو سياسي مثقف ومتنور وطليعي. لقد وسع مساحات حياته كتابة ونشر مثل هذه الكتب التي ستدخل المكتبة السياسية وتضيف لها أشياء ومعلومات مهمة كانت غائبة عن كثيرنا. في حين لم أجد في الساحة السعودية من كبارنا المسئولين والنافذين على استعداد، لأن يفكر في كتابة مثل هذا النوع من الكتب التاريخية المميزة. ولم أكن أرغب في تناول ما نقبله و ما لا تقبله من أفكار ن زار مدني، بقدر خوفي من القعود منتظرين الزمن ليمر حتى لا نكتب ما نحمله من ذكريات ومذكرات، لا نستحي من نشرها. المهم أن يجد المسئول القبول ببعض الأفكار التي يحملها في دفاتره المتعددة.

لقد استطاع السيد نزار مدني أن يفتح دربا واسعا، بل طويلاً، وشاقا ً، وهو درب أتمنى أن يسير كل المسئولين في بلادنا فيه وأن يكتبوا ما لديهم بنفس براعة ولياقة الدكتور نزار مدني.

إن مذكرات، أو ذكريات المسئولين ببلادنا تظل.. (قلعة) حصينة لتاريخنا، وملامح حضارتنا.

إذن لماذا رفع السيد الدكتور نزار مدني رايته وبقي الوحيد في الساحة ماسك بها وتقدم بها قدما ونحو الأمام وبكل هذه الجرأة لطرق الأبواب، وفتح نوافذ جديدة.

أن ما فعله الدكتور نزار مدني وضعنا في مصاف شعب يستحق أن يكون في مصاف المراكز السياسية والثقافية والفكرية الملائمة والمتقدمة والفخورة برجالها.

والله يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، وساعة العرض، وأثناء العرض.

Zkutbi@hotmail.com twitter: Drzkutbi مكة المكرمة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة