Monday 14/10/2013 Issue 14991 الأثنين 09 ذو الحجة 1434 العدد
14-10-2013

كيف سيغيرنا الإنترنت؟

إذا كان لسهولة الوصول للمعلومات وإشاعتها للجميع منافع جمة، فإن فوضى مصادر المعلومات وانفجارها سيؤثر في جودتها ومصداقيتها وسيصعب علينا تمييز الحقائق من الأوهام بالإنترنت..

ستتغير أفكارنا وطريقتنا في التفكير.. الأفكار ستميل للعدمية، وطريقة التفكير ستميل للعشوائية..

من نجاح طبيب يعالج الضغط والسكر والكلسترول بجرعة بقدونس أو بطيخ، ونجاح شيخ يعالج بالجن، إلى فشل أكبر وأقدم وأفضل موسوعة بالعالم (الموسوعة البريطانية) التي توقفت عن نشر نسختها الورقية نتيجة عدم الإقبال، فضلاً عن ضعف متصفحيها بالنت.. مروراً بما صار أكبر موسوعة بالعالم وهي ويكيبيديا التي يؤلفها الناس بعالِمهم وجاهلهم! من هؤلاء إلى أولئك احتفلت مؤخراً جوجل لمدة أسبوع -وليس يوما واحداً كما يفعل الآخرون- بمناسبة مرور 15 عاماً على انطلاقها، بريع يقدر بنحو 30 مليار دولار، والرقم يتصاعد وقد يصل إلى مئة مليار.. حينها ستتم جوجلتنا جميعاً! إنها جوجل أو «العالم في محطة اتصال» كما سمَّاها سلوتر، عميد معهد للشؤون الدولية والعامة..

وللمفارقة ففي نفس أسبوع احتفال جوجل أعلنت أقدم صحيفة ورقية بالعالم أنها ستختفي ورقياً وتهاجر إلى الانترنت، بعد نحو 280 عاماً في عالم الطباعة.. إنها الصحيفة البريطانية «لويدز لست» بعد أن بلغت نسبة قراء النسخة المطبوعة أدنى من 2% من قراء النسخة الرقمية، ومعها عشرات كبرى الصحف العالمية التي تودع مرغمة العالم الورقي، وربما يتلاشى كثير منها حتى من الإنترنت كما يتوقع إمبراطور الإعلام الملياردير روبرت موردخ..

يقول زوكر المدير التنفيذي لـ»إن بي سي» العالمية: إنك حين تصبح رئيس تحرير في العصر الرقمي ستشعر بالحماسة الهائلة والخوف الشديد! زوكر قلق بسبب سرعة انهيار بعض الشركات، وبتأرجح بعضها الآخر بين الصعود والهبوط.. وهو قلق أكثر بسبب سرعة ظهور الموضة التي تسبب هوساً يستحوذ على الناس لفترة قصيرة. وأكثر ما يخشاه هو تخريب القيم من خلال الابتكارات التكنولوجية المتسارعة دون هوادة.. خشية من أن تدع ذلك التسارع يصعقك حد الشلل.. يقول إن الخشية ليست لأني سأفقد الوظيفة، بل لأن النموذج الإعلامي سيتحطم بينما نحن نبتكر ونتوه.. إنه ما أطلق عليه «تيه المبتكرات»!

الابتكارات التكنولوجية غيرت دور المعرفة وتحول إلى دور اقتصادي مباشر. صارت المعرفة بضاعة في حراج الإنترنت، والبيع تحول إلى عملية مباشرة بلا وسيط (بائع) وبلا وسط (محل بيع)، بل أصبح مشتر وبضاعة.. وفي نفس الوقت صار المشتري يبيع معلومات ومعرفة.. صار الإنترنت السوق الأكبر لبيع المعرفة والمعلومات وإتمام العمليات الحياتية.. بداية بالمسائل المالية فأغلب العمليات تتم بلا حاجة للبنك.. وهكذا باقي العمليات تقل الحاجة إلى: مركز تجاري..عيادة للطبيب.. مؤسسة دينية للشيخ.. مؤسسة ثقافية للموسوعة.. مؤسسة أكاديمية للعلمي.. وحتى المدارس بدأت تتوجه لوضع موادها في النت مع مواقع لا تتبع مؤسسات تعليمية...

وإذا انتقلنا إلى الناقل الأكبر للأخبار وهو مؤسسات الإعلام.. ففي النت، تقل الحاجة للصحيفة لنقل الخبر أو تصوير الحدث، فكل من يحمل جوالاً أصبح مراسلاً صحفياً يوزع صور الحدث وتعلقاته قبل وصول المراسل المحترف، ويبيع الصورة عبر الإعلان! سينتهي مفهوم المرسل والمتلقِّي، والبائع والمشتري ويندمجان في مفهوم «المستخدم»، مما يتطلّب معه إعادة تعريف مفهوم النشر، بل ومفهوم المعرفة والاقتصاد بشكل عام.

تتحول المؤسسات الإعلامية والمعرفية من شكلها الرأسي وتسلسلها الهرمي إلى عالم أفقي بملايين شبكات الاتصال. الجيد أن المعرفة لم تعد حكراً على الدول المتقدمة.. وداخل الدول النامية فالمعلومة لم تعد تحتكر من مراكز القرار أو مراكز البحث، بل مشاعة للجميع. لكن ثمة ضريبة هنا، فجودة المعلومة ومصداقيتها ستتأثر كثيراً، بحيث يختلط المزيف بالواقعي، والوهم بالحقيقة!

المعلومات والمعرفة صارت تتشكل عبر الإنترنت في شبكة اتصالات تضم ملايين الأفراد عبر القارات. ولكي ينجح الموقع الإلكتروني لا بد أن ينتشر، واستمرار الانتشار يتطلب أرباحاً.. والأرباح لا تأتي من بيع المعلومة ذاتها بل من الإعلان.. والإعلان يتطلب الجماهيرية، وتلك لها شروطها.. فتضطر الشبكات الإخبارية أن تنشر أخباراً ترضي الزبائن لكي تجذبهم، هذا ما جعل شبكات الأخبار بالسنوات الأخيرة تصبح أنعم وتتوجه إلى السطحية بحسب ما اعترف كثير من مديري تلك الشبكات وفقاً لما ينقله أوليتا عنهم بكتابه « Googled».

شبكات الأخبار الرصينة أصبحت تواجه مصاعب جمة في الاستمرار بجودتها العالية أمام منافسة الشبكات المعتمدة كلياً على الإعلانات.. فحالياً تواجه كبرى الصحف العالمية ورطة، حيث تقاريرها ذات جودة عالية تتطلب تكلفة باهظة.. في السابق كان الجزء الأكبر من التكاليف يذهب عبر القيمة المباعة للصحيفة، ولكن الصحف الآن مجانية بالإنترنت، والمبيعات تتناقص تدريجياً؛ فمن سيغطي تلك التكاليف غير الإعلان؟!

هنا ستواجه مهنة الصحافة خطورة سقوطها في الرداءة وابتعادها عن المهنية وانسياقها مع الشعوبية التي لا تعنيها الجودة ولا ترضى بالحياد الصحفي المبني على أُسس منهجية، بل على الخبر الفاقع المتطرف كي تلفت الانتباه.. أصبحت صور من كاميرا بيد عابر تهزم أكبر المؤسسات الصحفية لأنه سبقها بالنشر ولأنّ بها مظاهر حادة قد لا تقبل بها الصحف الرزينة.. وأصبحت الصورة هي الأساس التي يتشكّل منها الخبر وليس مجرّد مظهر توضيحي للحدث..

هذه السيطرة الباهرة للصورة على الأحداث تنذر بخطورة اختلاط الحقائق وقدرة البعض على التزييف.. إذ يتراجع دور المعلومة من المراسل المحترف فتغدو الصورة مع بضع كلمات هي كل شيء: الأدلّة والتحليل والاستنتاج والقرار.. أي طغيان الحالة المشهدية على فهم الأحداث.. حيث تختزل الأحداث عبر الصور التي يقتنصها كل طرف ضد الطرف الآخر.. والآن تجد في الإنترنت كيف تحوّل جزء كبير من الصراعات إلى صراعات صور مجتزئة من سياق لا نعلم سوابقه ولا لواحقه.. وغالباً ما تكون الحقيقة هي أول الضحايا!

أكثر ما يتبدى خطر ذلك على الطلاب والطالبات حيث الإنترنت يصبح تدريجياً المصدر الأول لبناء المعرفة «العلمية» التي قد لا تتبع المنهج العلمي، فالمدارس بدأت تدريجياً تستغني عن الكتاب الورقي، وتضع موادها بالشبكة العنكوبوتية مع مواقع عديدة كمراجع.. كيف سيكون تركيز الطلاب أمام ملايين الخيارات، وجودة تلقيهم للمعرفة، وقدرة تمحيصهم للمعلومات؟ تجيب على ذلك الدراسات العلمية التي سيناقشها المقال القادم..

alhebib@yahoo.com

 
مقالات أخرى للكاتب