Sunday 27/10/2013 Issue 15004 الأحد 22 ذو الحجة 1434 العدد
27-10-2013

نَشْرُ الأريج بعد الإرواء مِن الرَّحيق.. لِمُداخَلَة العتيق: (3 - 3)

أخي سليمان: إن الثالث المرفوع بين (مادحٍ) و(ذامٍّ) بالنسبة لمن قال أو كتب عن شخص أن يكون (مُحايداً) كأن يكون مُخبراً أو مُستفهماً.. ومن قال عن إنسان شيئاً رائياً لحاله حزيناً عليه فقد يكون ذلك عن محبة وتوَجُّع على حاله، وقد يكون ذلك عن كُرهٍ وتحسُّرٌ بـ(لَيْتَ)؛ إذْ لا مجال للتَّرجي بـ (لعلَّ) بعد وفاة المرْثِيِّ؛ وذلك من مُنْطلق حُبِّ الخير للبشرية في قول سليمان لاحقاً بنثرٍ لا شعر، وهو قوله: «.. بل راثياً لحاله، حزيناً عليه».. وإنني لأظلم نفسي قبل أن أظلم سليمانَ إن قلتُ أو اعتقدتُ أن القصيدة غير مُعَبِّرة عن هذرِ القصيمي بلا معنى، وأنه ذَكَرَ بعض الثوابت التي انفلت منها هذر القصيمي كحقيقة الموت، وظاهرة النظام وواحدية القصد في هذا الكون.. ولكنني أتناول القصيدة بمقصِّ التشذيب والتهذيب لجزئيات لا تَتَّفق مع المعنى الكلِّيِّ الذي أردته؛ فالهوى بالقصر لا تعني معنى (الهواء) بالمدِّ؛ فإن كان الأمرُ ضرورةً شعرية والضرورات غير مقبولة في سَعَةِ شعر التفعيلة فليكن الرسم هكذا (الهوا).. وإن أراد بالهوى اتِّباع ما تهوى الأنفس بغير معايير العقل والدين فذلك لا يناسب سياق (واقِف في منحنى التِّيه)؛ لأن ذلك مقهورٌ على إرادته الوصول إلى الحقيقة بسبب حيرته الجبرية؛ فلا يكون مُتَّبِعاً الهوى حتى تنفيَ عنه الحيرة الحقيقية، بل أكَّدْتَ أنت أنه في حيرة حقيقية بكل بقية المفردات فيما وصفتُه والواصِف أبو عبد الرحمن بالمقطع الأول، فكل هذه المفردات تؤكد أنه حائر حقَّاً، وتنفي واقعه الحقيقي أنه مُتَّخِذٌ سلوكاً حُرَّاً في تغييب الحقائق، مُتَعَمِّدٌ التضليل بِتَنْحيته البديلَ عن كلِّ حقيقة نفاها، متعمِّدٌ الهذر بما لا معنى له أو بما معناه التناقض، وأن دافِعه التهالك على الشعبية، والبرمُ بقيود الشريعة التي استثقلها بسبب عقدة القضاء والقدر، والكُرْهُ الظاهر والدفين لخيار المؤمنين الذين جعلهم أصناماً وآلهة وأنبياء على سبيل الاستهزاء.. وليس في طويته حزن، ولا حَيرة حقيقية، ولا صدقٌ مع نفسه، ولا ضيق عيش، ولا اعتلال صحة؛ فقد عاش مُعَمَّراً مُمَتَّعاً في دنياه حتى حلَّ عليه المرض الذي كانت به وفاته.. وإنما اصطنع البكاء ولم يبك، وأَكْثَرَ النواح بلسانه ولم يَنْجُ، وكل ذلك عن سلوكٍ حر، واستثقالٍ لأحكام الشريعة ما دام غير ضامِن الجنة بعقدة القضاء والقدر؛ فلا فائدة لطاعة الشريعة عنده ما دام غير ضامن؛ فاصطع البكاء والنواح ليجذب العواطف بِكُرْه أحكام الشريعة القائمة على أحكام العقل والضرورة، وليشحن القلوب ببغض منابع الخير التي أسماها آلهة وأصناماً.. إلخ، واصطنع الحسبانية قصداً وتضليلاً؛ ليبعد ضرورات العقل والعلوم؛ فأسفاره الكثيرة غير المباركة شَحْنٌ للعواطف بغرائزها ونوازعها، والناس سريعو الانقياد لعواطفهم إذا شُكِّكُوا، ولُبِّس عليهم بحسبانية المعرفة والعلم، وغُيِّبتْ عنهم الحقائق ببراهينها؛ فالخلاصة أنه مشكِّك غير شاك.. ألا ترى فرعون ادَّعى الربوبية وجحد ما استيقنه عن سلوك شهواني حُرٍّ، ولم يكن شاكَّاً واليقين في نفسه أنه لم يخلق الكون، وأنه نشأ في حضانة المهد، وأنه عاجز في نفسه؛ لأنه يطلب من هامان أن يبنيَ له صرحاً لعله يطلع إلى إله موسى، ويحشد الجنود الكثيرة لمن يراهم شرذمةً قليلين؛ أَفهذه قُدْرةُ إله؟!.. وما نطق بحجة أو شبهة في مخاطبة موسى له بالحقائق التي بهتته في قوله تعالى: قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [سورة الشعراء 23-29]؛ فهل: {أَلَا تَسْتَمِعُونَ}، و{لَمَجْنُون} حجج أو شُبَهٌ يقابِل بها جحده ما استيقنته نفسه؟!.. إن حجته السلوك الحر ومنطق القوة لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين .. وسياق المقطع حفظك الله جعل للقصيمي صورة أخرى واقعية، وهي معاناة الحَيْرة بحزنها وألمها.. وهذا المقطع يجعل القصيمي مُصْلحاً لا مُخَرِّباً لأنه مُتْرعٌ كأسه بجراح المتعبين.. إلخ.. والمقطع نفسه يجعل أهواء الضالين معاناةَ وعذابَ وسهادَ وتعبَ مثقلين بأعباء الحَيْرة؛ فكان هذا غبناً دفيناً في نفوسهم.. والواقع يا أخي سليمان أن مَن خالف سبيل المؤمنين بعلمٍ ليس له إلا صفة (عدم العلم) الذي تعمَّده بسلوك حُرٍّ، وتغافل مُتَعَمَّداً عن براهين الحق.. وكيف يكون مُعذَّباً بجَبْريَّة الحَيْرة من يدرك بحسه البراهين في الكون، ويحْمل في دماغه ملكة تعقل، ويحْمل بين جانحيه قلباً يطمئن أو يقلق.. ولا أُنكر أنه يحصل من الشُّبَه حيرةٌ مُقلِقة حقاً، ولكنها مُؤجَّلة تزول عند صدق الإنسان مع نفسه بنظر العقل ومعادلاته، وقبل أن يرتاح بنور الإيمان يظل قلبه قلقاً؛ لأنه في خصام مع العقل.. فإن لم يصدق مع نفسه فسيتخذ سلوكاً حُرَّاً يُرْوي ما يقدر عليه من غرائزه المضطربة، وقد يتحلَّى بأخلاق وضعية لمنفعته الدنيوية؛ وبهذا السلوك الحر يموت قلبه فلا يُحِسُّ بالقلق.. وكل الشبه الجالبةِ الحيرة لا تدوم؛ فإما أن تزول باطمئنان القلب على براهين الإيمان، وإما أن تبقى عاطلةً لموت القلب بسلوك حرٍّ، ولو رام ذا السلوك الحرِّ أن يعيدها جذعة، ويلغي سلوكه الحر، ويُجْري المعادلة في إدراك الحِسِّ ونظر العقل: لعاد قلق القلب، وتوقَّدت الحيْرة إلى أن تنتهي بصدقٍ مع النفس عادِلٍ يُحْسِن المعادلة، ويلتزم مسؤولية العقل بعد الانتهاء إلى ضرورات أحكامه التي لا يملك العقل تجاوزها إلا بهوى وسلوك حُرٍّ يُحكِّم ملكة التخييل، ويُلْغي ضرورة التفكير؛ إذن ليس بصحيح قولك يا سليمان: «إن حشد هذه التعابير الثقيلة بصخبها وعنفوانها هو التصوير الأقرب لحالة الرجل وما يعيشه من توتُّر.. إلخ «.. كلَّا حفظك الله، بل إن هذا الصَّخَب الثقيل مِن مصلحة تضليل القصيمي للناس، واعتذار له بأنه ذو حَيرة حقيقية جعلته حزيناً يحمل أعباء المثقلين المغبونين!!.. ولكنَّ واقعه عكس ذلك فهو على يقين من حقائق الغيب، ولكنَّ دوافع السلوك الحر التي أسلفتها جعلته مُشَكِّكاً لا شاكَّاً، داعياً إلى الحسبانية غير معتقدٍ لها.. والبرهان على ذلك يجده من يستوعب قراءة كتبه، وإليك هذا النموذج؛ ففي كتابه (هذا الكون ما ضميره) يجزع من وصفه بالإلحاد، ويؤكِّد للناس أنه مُؤْمن حق الإيمان، ولكنه إيمان بعقله الفردي.. ثم تجده في كتابه (أيها العقل مَن رآك)؛ ينكر أن يكون عند الإنسان ملكة تعقل؛ فأين عقله الذي هو مصدر إيمانه كما في كتابه هذا الكون ما ضميره.. ثم هو في كل كتبه يهدم كل الحقائق بنطق اللسان ولا يضع بديلاً، ويُضخِّم وجود الخرافات والشرور ولا يجد في الكون بديلاً من الحق والخير؛ فهل في تعَمُّد التضليل، وجرِّ الناس إلى الحسبانية أكثر من هذا.. وحسبانية الفلاسفة أرحم من الحسبانية التي يدعو إليها القصيمي؛ فهناك حُسْبانية اصطنعها أبو حامد الغزَّالي المسلم، واصطنعها بعده ديكارت الفرنسي من أجل بناء حقيقة الإيمان على براهينها تنزُّلاً في الاستدلال كاحتمال ديكارت وجود شيطان يُلبِّس عليه إدراكه بحسه.. وهذهالحسبانية تهدم ما بناه؛ فلعل أيضاً شيطاناً لبَّس عليه أنه يشك ويفكر، ثم لبَّس عليه بمقولة: (إذن أنا موجود).. والتَّنزُّل في الاستدلال إذا أخلَّ بالبناء تحوَّل في مثل هذه الحال إلى حسبانية حقيقية.. وحسبانية السوفسطائية منها ما هو جنون على مذهب مَن يقطع بأنه لا وجود لحقيقة، ومنها ما هو فتْحٌ لباب الاحتمال؛ فمذهب (اللاأدرية) فَتَحَ الباب باحتمال مَن يدري، ومذهب النسبية القائل (الحق حق عند مَن يعتقده، والأشياء موجودة في ذهني لا في الخارج) فتح الباب باحتمال أن هناك حقاً له مَن يعتقده.. والقصيمي قطعي (دوغمائي) في أحكامه نفياً أو إثباتاً، داعٍ إلى الحسبانية بمنهجه وأسلوبه، وما أملح كليمة للإمام ابن حزم رحمه الله تعالى انتفعتُ بها، وهي قوله (علينا قَسْرُ النفوس على الحق لا قسر الألسن)؛ لأن الألسن طليقة، والنفوس مُقَيَّدة بضرورات العقل وطمأنينة النفوس؛ ففرعون الذي سلف ذكره ملك بلسانه أن يقول: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ وخسئت نفسه أن تتخلص من قَسْرِ أجوبة موسى عليه السلام المختومة بقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ، و إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ، كما بُهِت عقلُ الذي كفر، وضاعت الكلمات عن لسانه وهو حر طليق لما قال له إبراهيم الخليل عليه السلام عن الشمس فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [سورة البقرة 258].. إذن يا أخي سليمان لم أنكر عليك شيئاً سبقتك إليه؛ فلا تخلط عليَّ الأوراق؛ فلا أزال أقول: إن مقالاته (التي جعلَتْها كُتباً عاطلة من المصادر التي تَضَعُها في سياق العقل الإنساني المشترك) صراخٌ وعويل مُصْطنع وقلبه فارغ من الهموم والأحزان، وقد تدمع عيناه من الضحك، ولا يبكي خوفاً أو شوقاً إلا مَن خَشيَ ربَّه.. والهوى والجوى عرف لغوي أعم من عرف ذوي الاصطلاح على جزئيات العلوم، ويُعرف من اللفظ نفسه أن المعنى الأعباء الغرامية، ويدلُّ بقرينه من الخارج على ما هو أعم، وقد أسلفت احتمالات موقع (الهوى) المقصورة لا الممدودة في سياق قصيدتك، ومعاني لغة العرب يؤخذ منها ما يناسب السياق الذي يُحكم به على مراد المتكلم؛ فالاعتدادُ إنما يكون بدلالة الكلام مفردةً وصيغة ونحواً وسياقاً وقرائن؛ ولهذا صارت القاعدة عند الفقهاء والقانونيين: (أن العبرة بدلالة الكلام لا بإضمار المقاصد التي لا يُظهرها الكلام)؛ ولهذا أيضاً قصرتُ الجوى والهوى في سياق الأستاذ سليمان على مثل: (هات ايديك ترتاح لِلمستهم اِيدَّا)، ونفيتُ ذلك عن القصيمي؛ لأنه ما كان عاشقاً قط؛ وإنما كان قانعاً بأم محمد وفيصل.. وأسألُ حفظك الله عن احتجاجك بقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى: «لو أن قيساً تزوج ليلى لما سمعنا هذا الشعر الجميل «؛ فهل غيَّرتْ هذه الكلمة شيئاً من دلالة الهوى والجوى في العرف الأعم على حب المرأة؟!.. إن هذا من خلط الأوراق؛ لأن سكون الجوى في نفس فرد من الأفراد غير انزياح لفظ الجوى عن معناه الأعم الأعرف.. وما دمتَ دخلت هذا المدخل فإني متحفك بفائدتين إحداهما من قراءتي عن تجربة خبير، والثانية من تجربتي؛ فأما الأولى فإن محمد بن داود وأبا محمد ابن حزم رحمهما الله تعالى قرَّرا أن الجوى لا يكون إلا عن وِفاق روحي لا عن حسن الصورة التي هي حب شهواني؛ فالأول قال:

وما الحبُّ مِن حُسْنٍ ولا عن سماجةٍ

ولكنه شيئ به الروح تكلف

والآخر أنكر بشدة في طوق الحمامة أن يكون عِشْق الصورة الجميلة حُبَّاً حقيقياً، بل هو تعلُّق بشهوة يذهب بإشباع الغريزة.. ومُحِبُّك أبو عبد الرحمن طبيب فقيه في هذا الباب الذي يترفَّع الناس عنه أو يستحيون منه، والبرهان على ذلك كتابي (كيف يموت العُشَّاق)، وتغريدي مع (الطير المسافر).. وأما كليمة الشيخ الطنطاوي رحمه الله فما أراها إلا رجماً بالغيب، والبرهان على ذلك الفائدة الثانية التي هي من تجربتي، وهي أن شريكة حياتي التي اقطع إليها مسافة ثلاثة آلاف كيلو متراً ذهاباً ومثلها إياباً أربع مرات في الشهر وما كنت إلا مُضْنَى بالجوى: قد ملأت اليومَ بذريتنا وحفدتنا السكن الفسيح، ونام كل واحد منا في فراش وحده في أسفل الأرض (القَبْو)، ولو فقدتُ صوتها ساعة واحدة لعاد الجوى إلى أَشُدِّه، ولو حصل لي من تلاعب الشيطان في المنام وربما حصل ذلك سماعُ عبارة نابيةٍ تدل على الهجران لصارت ليلتي قلقلةً نَكِدَةً كئيبة؛ فالحب لا يشيخ أبداً، وعندي نبوءة لعلها أرجح من نبوءة شيخي في البلاغة علي الطنطاوي رحمه الله تعالى: (أن قيساً عاشق روح وليس عاشق صورة شهوانية؛ فلو زوَّجوه ليلى لملأ دنياه بقصائد الحبور، ولو حصل ما احتملته في المنام لعاد قيس كما هو: مجنون ليلى)!!.. وأما مَن اتخذ إلهه يا سليمانُ هواه فذلك غير جواهُ الأخصِّ، وقد أسلفت لك أن أهواء النفوس سلوك حر وليست عذاب حيرة يصدر عنه الحزن والبكاء؛ فلا تخلط عليَّ الأوراق سلَّمك الله.. ولستُ معك على ( أن ما خطَّه القصيمي بيمينه وحُرِّيَّته برهانٌ على أنه ذو بكاء وجروح، وأن ما خطَّه هو مرجعنا).. لست معك في هذا الإطلاق، بل نقول: (القصيمي مخبر بأنه يبكي وذو جروح)، ولا نحكم بصدقه أو كذبه فيما ادَّعاه إلا ببرهان من خارج، ولا تكون هذه الدعوى حجة على فهم كلامه النائح ما دمنا علمنا من سيرته وواقع سلوكه الحر أنه يتباكى ويدعو إلى البكاء والنواح وقلبه فارغ من الأحزان.. وارتكب أخي سليمان شططاً لما قال عن القصيمي: «وأنا أجهل سلوك الرجل، وليس لي معرفةٌ بشخصه، ولا يهمني ذلك، ولا أنشغل به؛ لأن قصيدتي ليست في مضامينها وغايتها مُوَجَّهةً إلى شخص القصيمي الذي أفضى إلى ربه [الأذْوق أفضى إلى ما عمل، وسيلقى ربه]، بل هي رسالة موجَّهة إلى الفكرة التي تمثَّلَتْ بالرجل من خلا ما كتب».

قال أبو عبد الرحمن: ما هذا يا بَعَدْ حَيِّيْ وأكون محبوراً إن رددتَ عليَّ بلهجتي الشقراوية، وأنا قَمينٌ بإسعافك ببعض مفرداتها.. على أن اللهجة الحائلية تأخذ بتلابيب القلوب: أليس عنوان القصيدة (رسالة إلى القصيمي)، وهو المخاطَب بضمير الغائب؟.. والجهل بسلوك الرجل ليس عذراً يُستغْنى به، والمعرفة بشخصه ضرورية؛ لأنه مُسْتَدْرَك بقراءة كُتُبه، وقراءة ما كُتِب عنه إن لم يَحْصل اللقاء.. وقلتُ (إنها ضروريَّة)؛ لأن فهم الكلام يقوم على برهانين مُتلازمين: برهان تصحيح من لُغة المتكلم، وبرهان ترجيح يُفهم به مراده وتَتَخصص به سَعَةُ دلالة اللغة، وعمادُ ذلك معنى المادة مُفردة، ومعنى صيغتها وزناً، ومعنى حرف المعنى الذي يربط بين المفردات والجمل؛ فيحُدَّ من سَعَة الاحتمالات في معاني المفردة والصيغة، ثم دلالة تركيب الكلام من النحو، ثم دلالة تركيب الكلام بلاغة، ثم دلالة السياق من توالي الجُمَل، ثم دلالة قرائن الأحوال.. ومن تلك القرائن معهود المتكلِّم، والخبرةُ باتجاهاته، والتمرُّس على أسلوبه.. وفي كتابي عن النظرية الأدبية التي فهرستُ فيها لمادة النظرية الأدبية وسأعاودها إن شاء الله بالتهذيب: بَيَّنت أن مِن منابِع فهم النَصِّ وتفسيره الاستقصاءُ لكل مصدر دل على الترجمة للرجل وتحليل شخصيته.. ولقد أحسن الأستاذ سليمان غايةَ الإحسان عندما قال: «أرى أن حالة القصيمي هي سقوط وإفلاس يدعو للرثاء أكثر مما يدعو للذم والمواجهة؛ ذلك أن الرجل وأنت تقرؤه تجده متهالكاً متفانياً في سبيل تحطيم كل شيئ وكل معنى بلا استثناء؛ فهو يهجو الشمس والطبيعة والتاريخ والقِيم.. ومع هذا كله لا تجد لديه أيَّ مشروع بديل، ولا رؤيةٍ ولا توجُّهٍ بنَّاء؛ فهذه النقمة وهذا الحقد المنصب على كل أشياء الحياة والكون والوجود: تُبرز كم يعاني هذا الرجل (بخروجه من حظيرة الإيمان والذكر والصلاة) من تمزق وضياع وإحباط وخيبات أمل، وكل هذا يمثل أزمة وجود تُجَسِّد مأساةً يُرثى لها ويُحزن على صاحبها».

قال أبو عبد الرحمن: ما أجمل هذا الكلام، ويا ليته كان هو المقطع الأول من القصيدة بوزن الشعر ولغته قبل بياني هذه الظاهرة عندما انْتَقَدَّتُ المقطع؛ لنرتاج من دلالة المقطع المنشور الذي عَكَّر على حقيقة واقع القصيمي.. ولكن هذه الجُمَل جاءت بعد مداخلتي.. وأرجو أن أجد عند أخي سليمان تفاعلاً مع ما لم يذكره من الأشياء التي داخلتُ بها المقطعَ الأول من قصيدته؛ لأعْدل الميزان إن كان حائفاً، أو أن أكون قرير العين بتلاقح الأفكار، وأعد إن شاء الله في سويعات نشاط أن أَفِيَ بحقِّ القصيدة؛ فأدرس بقيَّتها.. وأختم ههنا بمعضلة (القضاء والقدر) التي هي (عُقْدة) القصيمي القابلة للحلِّ لولا أنه انطوى عليها بسلوكٍ حُرٍّ غيرِ مسؤول؛ فأَرغم نفسَه على قناعة تُميت القلب؛ فيفقد قَلَقَه تجاه نداء العقل.. كان القصيمي في نشأته بين علماء نجد شَفَّافاً مُحاولاً التَّعمُّل في الأسلوب قبل الإشراف على الأساليب الحديثة ذات الإيقاع الخلاب، وكان مُعْتَدَّاً بنفسه إلى حدِّ الغرور، ويظهر هذا من ممارساته الشعرية القليلة التي وَدَّعها بلا رجعة، وجارَى بيئته بالتأليف في مسائل شرعية حيوية ككتاب الصراع بين الإسلام والوثنية، ومشكلات الحديث.. إلخ، ولم تكن على المستوى العلمي الناضج الذي يُشيعه المعجبون بالقصيمي إلى حَدِّ أن بعضهم في محادثة بين وبينه شفهية زعم أن كتابه (الصراع) يضارع كُتُب الإمام ابن تيمية، فحرصتُ على استجلاب جميع كُتبه قبل الرِّدة؛ فوجدتُ ما بينه وبين الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما بين الثرى والثريا على الرغم من سرعة ابن تيمية في التأليف والإملاء، وعدم معاودته بالتصحيح؛ لتحسين العبارة وإزالة الغموض.. ولكنَّ القصيمي أفاد من ابن تيمية، وليست مؤلفات القصيمي قبل الردة (لا في نجد ولا في مصر) بذلك النضج الذي يزعمونه، وهو حال تأليفه محموم بالتحذلق في الأسلوب، والاعتداد بموهبته، وسيطرة مسألة القضاء والقدر على تفكيره وسلوكه.. وكتابه في مصر (البروق النجدية) في الردِّ على شيخ الأزهر الدَّجوي على ضحالته أحدث له سمعةً طيبة في المملكة آخر حياة الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى، ولم تطل المهلة لتحتضنه المملكة، بل وجد في مصر عقولاً مُتَفَتِّحة على التركة الثقافية التي خَلَّفها نابليون ومن جاؤوا بعده من الإنكليز، ورأى طلائع الإنجاز العلمي المادي، وكان في وعيه ما يُتلى من قصائد الوعظ في المجالس والمساجد مثل منظمة (إن لله عباداً فُطنا)، وما يسمع من زهد الإمام أحمد وبشر الحافي رحمهما الله تعالى؛ فأطلق مقولته المشهورة: (طلَّقوا الدنيا ونكحتها أمريكا)؛ فبدأت بوادر الردة عنده، وطارحه سيد قطب بردود أظنها نشرت بمجلة الهدي النبوي، ولم يَتَيَسَّرْ لي جَمْعُ تلك المقالات والاطلاع عليها؛ فكانت الفرقعة الأولى كتابه (هذه هي الأغلال)، وأُجْلِيَ من مصر مرتين؛ فاقتنصه المُلمِّعون الظلاميون؛ فنال عطفاً مادياً ومعنوياً منهم، واحتفظ بولاء قومي وطني للمملكة فتوسَّع رزقه، والخيِّرون غير آيسين من هدايته.. ولكنَّ الشهرة التلميعيَّة التي حصلت له حتى كاد يكون (المفكِّرَ الحرَّ الوحيدَ في العالم العربي) جعله يتمادى فيما يُغذِّي هذه الشهرة؛ فاختار ما أسلفتُه من السلوك الحر، وتغييب البراهين، والدعوى إلى الحسبانية.. وانتشرت كتبه، وتعدَّد طبعها في العالم العربي والأجنبي، وأدرَّت عليه كسباً خبيثاً كثيراً.. فأما عقدة القضاء والقدر عنده فقد طرَحَها شفهياً في نجد، ولم يجد مجتمعاً يتحمَّل الصبر بحوارٍ فكري هادئ يحلُّ عُقَده؛ فغادر المملكة على مضض، وتنبأ الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى بردَّته، وكان قد أوصاه بطلب العلم على المشايخ بالرياض؛ فلم يصبر عليهم لغروره، ولم يصبروا عليه لتجديفه؛ فغادر الرياض على الحال التي ذكرتها.. وهو في كل هذا على الاعتقاد بتجوير الله، وأن التزامه بشرائع الإسلام لا ينفعه ما دام مردوداً إلى حُكْم مُسْبَق في اللوح المحفوظ، ولم يجد من يحل عُقْدته بمنهج حوار فكري علمي، ورأى زينة الحياة الدنيا وآلات القوة في يد غير المسلمين.. وما دام الأمران عنده مُتساويين إنْ أطاع الشرع أو عصاه آثرَ إماتةَ مشاعر القلق في القلب من أجل نداء العقل، وذلك بالسلوك الحر، والاستمتاع بالدنيا، وأن ذلك الاستمتاعَ أو نقيضَه لن يُغيِّرا شيئاً من القضاء المُحكم المُسْبَق في اللوح المحفوظ؛ وما دام الأمران عنده كذلك صَبَّ جام غضبه على الثوابت، وتجرَّأ على ما لم يتجرَّأْ عليه غيره من أساطين الإلحاد من ناحية كثرة العتاب وشنيع العبارات في حق الرب سبحانه وتعالى؛ فمات قلبه، وعطَّل ضرورات عقله؛ فحوَّلها قَسراً بالتضليل والمغالطة لخدمة خيالاته، وإخفاء تزييفه، وتكثير جمهوره.. ومع موت القلب ورِفْعة الصِّيت بالتلميع، والتصميم على السلوك الحر: حصلتْ له الطمأنينة الدنيوية والمتعة بما هو فيه.. هذه حاله هو، وأما حال مسألة القضاء واقدر فقد عالجْتُها في مباحث كثيرة منها ما نُشِر بهذه الجريدة بعنوان (فيلسوف واعِظ ولكن عن فكرٍ وتجربة)، وأريد تعميق وبسط المسألة وإيجازها معاً، وحسبي يقينُ النفس التجريبي بان حكم الله الماضي فينا هو العدل في قضائه، بسبب كفر الكافر، وذنوب المؤمن التي تمحوها المصائب والتوبة، ويستيقن مع ذلك بتجربته النفسية في ممارسته العبادة بخلوص نيةٍ أن مع العدلِ الإحسانُ والرحمة؛ لأن مَن توكَّل على ربه، واعتصم به واستعاذ به منه، وناجى ربه مُتَضَرِّعاً يرقُّ قلبه وتدمع عينه على الرُّغم منه ؛ لأنه في حالة يغلب فيها الرجاء على الخوف؛ لأن الله يُعَجِّل له البشرى ما ظلَّ على هذه الهيئة في عبادته.. وللنفوس عزوف يروضها عدم الغفلة بذكر الله ابتداء بالتخلية التي هي التسبيح والتنزيه، ثم الحمدِ الجامعِ المدحَ والشكر، ثم التكبير الذي يُحرِّرك من العبودية لغير ربك، ثم التهليل الذي هو إعلان لإخلاصك لربك في تسبيحك وتحميدك وتكبيرك في السر والعلن.. ولو مارس القصيمي هذه اللذة ما ساوت عنده الدنيا جناح بعوضة.. وهذه اللذة والبشرى حصيلةُ يقين علمي فكري.. أو لم يقل ربنا سبحانه وتعالى وقوله برهان في نفسه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (100) سورة يونس؛ فالله ضامن إجابة الدعاء بشرطه، حاثاً عليه، متوعداً من تركه.. وتَرْكُ ذلك رِجْسٌ على الذين لا يعقلون؛ لأنهم عطَّلوا براهين وحدانية الله في القدرة والهيمنة والكمال والرحمة والعدل، وتركوا تجربة ما أُمروا به من الطاعة والدوام عليها؛ لأن في ذلك طمأنينتهم وبُشراهم.. ثم تتوالى البديهيات في تسلسل رياضي فيعلم من قرَّ الإيمان في قلبه وامتثله سلوكاً: أنه وأمَّته مأمورون أمر إيجاب بإعداد القوة والبذل فيها حتى لا يُلْقوا بأيديهم إلى التهلكة، وأن جُهده في كسب المال وادِّخار ما يُنَمِّيه بعد إخراجه حقوقَه عملُ خيرٍ وفضيلة يُوسِّع به على رعيته وذوي الحاجة، ويتعفَّفُ به، ويبذله فيما جعله الله له عِوضاً من المباحات والمشروعات، وأن اكتفاءه بالقليل في مؤونة نفسه من غير تضييق على رعيته وأمته عمل مشكور يزيده قوة ورفعة.. ومسألة القضاء والقدر شحنتُ بها مقالاتي وكتبي، وفي مُسَوَّداتي الاستدراك بفوائد كثيرة عسى أنشط لتحبيرها، ولكنَّ مفتاح ذلك برهانُ واحدية القدرة والهمينة المُقتضي الانطراح بين يدي القديرلمهيمن، والبراءة من الحول والقوة إلا به، والضراعة بأدعية الهداية والتثبيت، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب