Monday 28/10/2013 Issue 15005 الأثنين 23 ذو الحجة 1434 العدد
28-10-2013

أيام في سنغافورة

ودعنا مطار الظهران إلى (سنغافورة)، وارتفعت بنا طائرة الخطوط الجوية السنغافورية في 10-8-1434هـ، وكانت المقاعد كلها مشغولة، والمضيفات والمضيفون كلهم من سنغافورة، ويتحلون بأدب جم ومعاملة جيدة، وكانت ضيافتهم عشاء فاخراً، ذكرني بخطوطنا السعودية في رحلاتها الدولية، وكان جاري في المقعد أحد الإخوة الماليزيين، ممن يعمل في بلادنا، فكان يحدثني طوال الوقت عن الشرق الأقصى، ويمتعني بحديثه عن حضارة الشرق الأقصى وعالمه وأجناسه، وعن انتشار الإسلام. وبعد وجبة العشاء أُغلقتْ نوافذ الطائرة، ثم عُرض (فيلم) طويل، وكنت بين اليقظة والنوم، وصحوت على خطى المضيفة وفي يدها أغطية لمن يحب أن ينام، ولأنه يتعذر علي النوم في الطائرة كعادتي طلبتُ إضاءة المصباح؛ إذ إن معي مجموعة من الصحف والمجلات، صحبتها معي لأتسلى بقراءتها في الطائرة. وكان الليل طويلاً، وفتحت نافذة الطائرة وإذا على الأفق ضوء كالفجر، وبدأت الشمس تشرق في مواجهتنا، وجاء المضيف يقدم الإفطار الشهي السخي، وكان الطيران أكثر من ثماني ساعات، وبدأنا نستعد حسب تعليمات الطائرة للنزول في المطار الدولي الكبير؛ إذ إنه محطة للطيران العالمي بين الشرق والغرب، وكنت أشاهد من خلال النافذة المناظر الخلابة والمطر، فرددت قول الشاعر:

أنى نظرت رأيت ماء سانحاً

متدفقاً أو يانعاً متهدلاً

وقول الآخر:

نزه الطرف في بلادنا ففيها

كل ما تشتهي وما تختار

فسنغافورة روضة متموجة غناء، تمتع البصر بخضرة أشجارها، وترى الخضرة والنضرة في أرجائها. وفي صباح اليوم العاشر من شهر ذي القعدة 1410هـ كان الوصول إلى سنغافورة، وكان النزول في فندق (بلازا)، وكانت الزيارة الثانية لهذه المدينة الجميلة؛ لأنها كما قال الشاعر:

بلاد بها ما يملأ العين بهجة

ويسلي عن الأوطان كل غريب

إنها جزيرة نظيفة، عدد سكانها أكثر من مليونين، وأغلب سكانها من الصينيين، والباقون من الهنود والملايو، وبها جالية عربية، وشارع باسمهم، ومحال تجارية. وانطلقت ورفيقي في هذه الرحلة نتجول في شوارعها وميادينها وأسواقها التجارية، ونمد أبصارنا إلى ما يحيط بها من مناظر خلابة، وغدونا نسير في أسواقها ومشاهدة مرافق التجارة والميادين، ونرى الناس في حركة نشطة وهم في ذروة الغنى والمرح والانسجام؛ فهم يعيشون في هذه الجزيرة أطيب العيش وأحلاه نتيجة النشاط والعمل والكفاح، فهم في هذه الجزيرة مثل الدول المتطورة كاليابان والصين في مظاهر البناء والعمران والبنوك والسياحة ومشروعات النمو والتطور.. إنها جزيرة جميلة حقاً، حباها الله بقسط وافر من جمال الطبيعة؛ فهي تبدو كالحديقة الغناء مخضرة الأرض لكثرة المطر الذي يتساقط رذاذاً؛ إذ تشرق الشمس صباحاً وفي الظهر ديمة متواصلة ومزن ينتشر في السماء، وكم أصاب ملابسنا المطر فندخل أحد المقاهي لتجفيفها، وسرعان ما تجري المياه في جوانب الشارع، وتزول. وذهبنا لبعض الروابي والجبال، وهي أشبه ما تكون بمظلة خضراء، وشاهدنا سنغافورة في روائع زينتها في مربعات مختلفة الأحجام والأشكال، وفجأة وثبت إلى خاطري قصائد الجمال ملهمة الشعراء حيث الندى والشمس فوق لجين الماء عقبان كما قال شوقي:

فتحت جنانك الأنهار تجري

وملء رباك أوراق وورق

ورددت قول الشاعر:

افرح بدنياك واشبع من مشاهدها

ماء وروض وأشجار وأنهار

وفي سنغافورة شوارع لا تحصى مليئة بالمراكز التجارية ومجمعات التسوق المكيفة المؤلفة من طوابق عدة حيث محال الملبوسات بالعشرات، إضافة إلى المخازن والمطاعم والمقاهي.. ويشاهد المرء السياح يستمتعون بشراء كميات من الهدايا ذات الشهرة العالمية وآخر ما توصلت إليه التقنية العصرية.

ويلاحظ الإنسان في متاحفها أنها ذات حضارات متعددة؛ لذا يحرص السكان على إحياء تقاليدها القديمة. ولقد شاهدت الكرنفال السنغافوري؛ إذ خرج الجميع إلى الميادين والطرقات للمشاركة في الألعاب والمواكب وعروض الأزياء والحفلات المتنوعة في مختلف الأماكن والميادين، ويجلس الناس في الحدائق تحت ضوء النجوم.

وفي شارع العرب دلفت إلى أحد المحال التي يملكها تاجر عربي، الذي أفاد بأن أجداده وفدوا من حضرموت، ودار الحديث بيني وبينه عن تاريخ العرب في إندونيسيا وسنغافورة وماليزيا، وقال: نحن حريصون على إحياء التقاليد والعادات العربية في نفوس أبنائنا، ونعلمهم دروساً شتى في مكارم الأخلاق وآداب الإسلام ودراسة اللغة العربية، وغير ذلك مما كان يتميز به أجدادنا الذين جاؤوا إلى هذه الديار، ونشروا الإسلام في جنوب شرق آسيا، وقد اتخذوا سنغافورة قاعدة تجارية حتى قبل أن يكتشفها الإنجليز ويدركوا أهميتها الاستراتيجية في العشرينيات من القرن التاسع عشر. وقال زميل له كان حاضراً: لقد اندمج العرب بسرعة في المجموعات السكانية، وحازوا احتراماً وتقديراً بوصفهم معلمين مسلمين، وتزوجوا من أهل البلاد، وعلى مر السنين أثرت الثقافتان في بعضهما، ومن المؤسف اليوم أن نرى بعض شبابنا فقد الكثير من لغته وعادات أهله وأجداده وتراثهم، ولا يستطيعون التحدث باللغة العربية.

لقد كان العرب قوة في هذه الجزيرة، وكان فيهم تجار ورجال أعمال أقوياء، وهذا الشارع وغيره من الشوارع الأخرى كانت تحفل بها متاجرهم، وتحمل أسماءهم، مثل الثقاف والجنيد وغيرهما. ثم سأتله: هل تعرفون اسم أول عربي وصل إلى هذه الجزيرة؟ فقالوا: إنهما محمد الجنيد وعمر الجنيد في عام 1815م، وذلك قبل وصول الإنجليز بخمس سنوات. وقد شُيد أول مسجد في سنغافورة في عام 1820م، وأصبح اليوم من المعالم التاريخية المهمة في الجزيرة.

إن هذه الجزيرة الجميلة تحوي في جنباتها اليوم أصنافاً شتى، ويمثل الصينيون 77 % من السكان، و14 % مالويون، و7 % يهود ولهم نشاط تجاري واسع، والباقي من أجناس آسيوية وأوروبية وغيرها.

- الأمين العام لدارة الملك عبدالعزيز السابق

مقالات أخرى للكاتب