Saturday 02/11/2013 Issue 15010 السبت 28 ذو الحجة 1434 العدد
02-11-2013

مُعْضِلَةُ {لِئَلاَّ}

لمَّا وعد الله المؤمنين في سورة الحديد بالأجر الجزيل لمن آمن بالله سبحانه وتعالى وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: جاء التعليل بقوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (29) سورة الحديد؛ فكان تقدير الكلام التعليليِّ بعد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (28) سورة الحديد: (من أجل أن لا يعلم أهل

الكتاب أنهم لا يقدرون على شيئ من فضل الله)؛ فلما حارت أفهام جمهور المفسرين في فهم المراد رجعوا إلى الدعوى الذميمة المُـفتراة على كتاب الله وعلى لغة العرب من وجود مفرداتٍ زائدةٍ لا معنى لها، وشنَّعوا على من أَبَى ذلك.. وَمبْعَثُ الحيرة عندهم أن مجازاةَ اللهِ عبادَه المؤمنين مُظْهِرَةٌ عِلْمَ أهلِ الكتاب أنهم لا يقدرون على شيئ من فضل الله؛ فكيف ورد نص الآية الكريمة بالنفي لا بالإثبات؟!.. فلما حصلت هذه الحيرة قالوا: (لا) زائدة في قوله تعالى: {لِئَلاَّ}، والتقدير (لِيَعْلَم).

قال أبو عبد الرحمن: بَيَّنتُ كثيراً أن اللغة للبيان وإزالة اللبس بتعليم الله وإفهامه خَلْقَه؛ ليعبِّروا عن مرادهم، وأن الفضول المنافي ذلك يأتي في تركيب الكلام من جاهلٍ أو من مَضايِق الشعراء في ضرورات الشعر.. وكلام اللهُ مُنَزَّه عن الفضول، ومُنَزَّه عن ضرورةٍ تدفع إلى الفضول؛ فالله جلَّ جلاله مُعَلِّم اللغات، وهو الحكيم الخبير العليم القدير لا تحكمه ضرورة؛ وإذن فكلمةُ (لا) أساسٌ في الكلام، وتعالى الله أن تكون زائدة؛ وإنما جاءت حَيْرَةُ جمهور المفسِّرين بسبب غفلتِهم عن المعهود الذِّكري والعلمي، وجاءت غفلة جمهور النحاة بسبب (صناعة النحو)، وقد بَيَّنتُ كثيراً أن سَعَة اللغة والنحو والبلاغة تُنَزَّل على خُصِوص مُراد المتكلِّم ببرهانَيْ تصحيح وترجيح، ولا يجوز تضييعُ خصوصِ مُراد المتكلم في سعة احتمالات اللغة والنحو والبلاغة.. وبيان أنَّ (لا) في الآية الكريمة تأسيسية، وأنه من المُحال الشرعي، ومن المحال في لغة العرب أن تكون زائدة: يكون باستحضارِ المعهود العلمي من خبر الشرع المُطهَّر؛ فمنه نصوص كثيرة يَدَّعون فيها خُصُوصِيَّـتَهم بالفضل كأنَّ اللهَ حاباهم بذلك، وهذا الاعتقاد يتضمن دعوى قدرتهم القاضيةِ بمحاباة الله لهم؟!.. وأذكر من ذلك قوله تعالى عنهم: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (135) سورة البقرة؛ ولهذا لا يرضون بغير اتِّباع مِلَّتهم بعد نسخ شريعتهم ونَفْيِ ما أُدْخل على دينهم؛ فبيَّن الله أن الهدى هدى الله في شرائعه لا فيما احتكروه بدعواهم؛ فقال سبحانه وتعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (120) سورة البقرة.. ومِن دعاوى الخصوصية في مزاعمهم ما قصَّه الله عنهم بقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (18) سورة المائدة.. ثم تأتي الخطوة اثانية من المعهود السياقي، وهو أن ما وعده الله المؤمنين وعدٌ سيتحقَّق في الآخرة؛ فلا يعلمه أهل الكتاب في الدنيا، وإنما يعلمه علماً إيمانياً مَن آمن منهم.

قال أبو عبدالرحمن: نتج عن هذين المعهودين أن الآية الكريمة تبكيت لمن لم يؤمن من أهل الكتاب، وسخرية بهم، ووعيد لهم بأن يُضِلَّهم الله جزاءَ بَغْيهم بأن يبقوا على عماهم في دعوى الخصوصية؛ فصار معنى {لِئَلَّا يَعْلَمَ} بمعنى لكيلا يحصل لهم العلم الحقيقيُّ النافي ما هم عليه من العلم الدَّعَوِيِّ وهو في حقيقته تغييبُ علمٍ؛ وذلك بدعواهم الخصوصية في الفضل.. وأن يبقوا أيضاً على الجهل الدَّعَوِيِّ بأن الفضل الحاصل لمن آمن من أهل الكتاب قبل بعثة عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم مِنْحة من الله، وليس بحولهم وقدرتهم ومشيئتهم بإطلاق؛ فيبْقَوا على دعوى جهلهم (وذلك هو عدم العلم ادِّعاءً) بأنهم قادرون على شيئ من فضل الله.. ولا ريب أن نقيض العلم هو الجهل، وأن (لا يعلم) تساوي (يجهل)، ولكنَّ ربنا جلَّ جلاله مُعَلِّمَ اللغات، المُـرْشِدَ إلى جلال الكلام وجماله بالبلاغة: جاءَ أمره الكريم بنفي العلم لا بإثبات الجهل؛ لأن الجهل لا يكون إلا مع غياب العلم، وهؤلاء المُعَلَّل انصرافهم عن الحق بعدم العلم لم يغب عنهم تعليم الله لهم؛ وإنما ادَّعوا أن عندهم عِلْماً مُعاكساً، وهو دعوى خصوصيتهم التي جعلوها علماً غَيَّبوا به العلم بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء؛ فعدم علمهم ادِّعائي لا حقيقي؛ فصار المآل: من أجل أن لا يعلم أهل الكتاب العلم الحقيقيَّ الذي أُخبروا به كالخبر بأن الهدى هدى الله وفضله يؤتيه من يشاء.. وعكس ذلك أن يبقوا على دعوى الجهل التي تَعمَّدوها وصارت في دعواهم علماً، وهي أن الفضل مُختَصٌّ بهم؛ وبضرورة الشرع عُلِم أن هذا التبكيت والتجهيل والسخرية مُتَعَلِّقاتٌ بمن لم يؤمن من أهل الكتاب.

قال أبو عبدالرحمن: ومِمَّن وُفِّق في المنع من زيادة (لا) أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ؛ فقال: ((لا يكون في كلام الله شذوذ وما [أي ولا ما] يُسْتغنَى عنه))؛ ولكنه أخطأ الجادَّة في التأويل؛ فَفَرَّق بين الضمائر بالدعوى، وبما هو مُفْسِدٌ السياق؛ فجعل ضمير {لاَّ يَعْلَمُونَ} لأهل الكتاب، وضمير {لاَّ يَقْدِرُونَ} للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين رضي الله عنهم، ومآل الكلام عنده: (كي لا يعلم أهل الكتاب أن المؤمنين لا يقدرون على شيئ من فضل الله).. ثم جعل (لا يعلم) نفياً بمعنى (يعلم) إثباتاً باختلاف حالتين؛ فصار مآل الكلام عنده: (أنتم أيها المؤمنون لا تعلمون أنكم لا تقدرون على شيئ من فضل الله؛ فإذا آمنتم كما أمركم الله: آتاكم من فضله؛ وحينئذ يعلم أهل الكتاب بما آتاهم الله).. وتأوَّل الجاحظُ معنى (العلم) بمعنى (وقوع الفعل)؛ لأن الأشياء لا تُعْلَم إلا بعد وقوعها.. ويلزم من تأويل الجاحظ أن أهل الكتاب لا يعلمون قدرة المؤمنين، ولكنهم سيعلمون الفضل الذي آتاهم الله بعد وقوعه.

قال أبو عبدالرحمن: هذا التأويل سافِل جداً، ومبناه على الدعاوى العارية، وعلى هَدْمِ البيان العربيِّ المبين؛ ولهذا أعالجه بالوقفات التالية:

الوقفة الأولى: أن قوله تعالى: {لاَ يَعْلَمُ} نفيٌ لكلِّ أحوالِ علمِ أهل الكتاب المتعلِّق بما هو مذكور في السياق.. والجاحظُ فسَّر (لا يعلم) بمعنى (لا يعلم في حال)، و(يعلم في حال)، والحال الأولى أن أهل الكتاب لا يعلمون قُدرة المؤمنين على شيئ من فضل الله بعد وقوعه!!.. وهذا تأويل يُسْتكْثر من السُّكارَى الطافحين، فلا يُعقل في اللغة ألبتة بأن (لا يعلم) بمعنى (لا يعلم، ويعلم)، وهذا التأويل في حُكم العقول تناقضٌ؛ لأنه ليس في اللغة دلالة على هذه الثنائية، وإنما تُزِيل اللغةُ التناقضَ بالتفصيل بالقِسْمة؛ فيقال: (لا يعلم في حال كذا، ويعلم في حال كذا).

والوقفة الثانية: أن ضمير {لاَ يَعْلَمُ} هو لـ {أَهْلِ الْكِتَابِ} بتنصيصٍ مباشر بلا فاصل، وجاء بعده مباشرة بلا فاصل {لاَّ يَقْدِرُونَ}، كما أن الخبر عن أهل الكتاب؛ فحصل أمران هما من أصولِ الأصولِ، وهما تَعَيُّنُ حَمْلِ الضمير على أقرب مذكور إذا كان هو المُخْبَرَ عنه؛ فالأصلان هما: المُخْبَرُ عنه، وأقرب مذكور.. وتأويل الجاحظ تلاعبٌ باللغة لو اسْتُرْحِلَ لما بقي في الوجود كلام يُعْقَل؛ بل يُفهم الكلام بالاختراع والشهوات، وتغييب الأصول، وإلغاء مُراد المتكلِّم.

والوقفة الثالثة: أن أهل الكتاب لم يَدَّعوا قدرتهم على فضل الله؛ وإنما كان ذلك لازمَ مذهبهم من المحاباة؛ إذْ ادَّعوا أن الله خصهم بذلك؛ فلما أكذب الله دعواهم نزَّل الله دعواهم منزلةَ من ادَّعى العلمَ بخصوص قدرته على فضل الله دون غيره؛ فجعل حالهم حال مَن لا يعلم أن عموم فضل الله يُؤتيه من يشاء غيرهم.. وكذلك عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون هم أعظم علماً بأن الفضل بيد الله، وأنهم لا قدرةَ لهم إلا بهداية ربهم وإعانته؛ فكيف خالف الجاحظُ قواطعَ الشريعة بأن المؤمنين لا يعلمون أنهم لا يقدرون علماً حقيقياً في حين أن نتيجة تأويله هو عِلْمُ أهل الكتاب بحصول الفضل للمؤمنين بإقدار الله لهم؟!.

والوقفة الرابعة: أن ما آتاه الله المؤمنين مُدَّخر لهم في الآخرة لم يعلمه أهل الكتاب ولم يؤمنوا بوقوعه أو أنه سيقع؛ وإنما علموا تمكينَ الله المؤمنين وانتشار دينهم؛ فما رأوا ذلك فضلاً، بل رأوه ابتلاء لهم وعدواناً يقاومونه إلى أن ينزل عيسى بن مريم فيحكم بشرع أخيه محمد عليهما الصلاة والسلام.

والوقفة الخامسة: أن الشيئ يقع ولا يعلم بعض الناس بوقوعه، ومن بعض الواقع المُغيَّب ما لا يعلمه البشر؛ فلا يصح حقيقةً ولا مجازاً حَمْلُ العلم على معنى الوقوع.

وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب