Tuesday 26/11/2013 Issue 15034 الثلاثاء 22 محرم 1435 العدد
26-11-2013

مِنْ خِيَانة التَّرْجَمةِ إِلى خيانة القراءة..! (1-2)

كتبت عن عتبات القراءة، بوصفها عتبات الفتنة، ما ظننته كافياً شافياً، وما كنت أحسبني مشدوداً لهذه الإشكالية الأزلية بهذا القدر، ولا وَجِلاً منها بهذا القدر. وما كانت عودتي من باب العود على البدء، ولكنها استبيان لجانب آخر، يندرج ضمن فتنة القراءة.

وليست القراءة التي أعني وقفاً على المسطور، إذ كُلُ ما استقر في الذهن فهو ناتج قراءة، فالكون كُله صفحات منشورة، يستلهم معانيها المعنيون، ولكنها كالقطر على الأرض، يختلف طعمُهُ، ولونهُ، وأثرهُ باختلاف التربة. والمقروء يتلبس بقناعات الفكر، وجاهِـزيَّات التصور. وذلك مكمن الخيانة. ومن المُستحيل براءة القراءة، ولكن اللُّطف بِها أدنى المطالب.

والمسكونون بِهَمِّ القراءة يُدْركون شوارد المتداول، فضلاً عن المسلّمات.

ولقد تأخذ الإطلاقات سِمَةَ الاصطلاح الجامع المانع، ومما هو مستفيض على ألسنة الخاصة إجماعهم على أن ترجمة الشعر خيانة. ذلك أن الإعْجاز البياني لأي نص أدبي، لا ينتقل معه إلى لغة أخرى. ولهذا أجمع العلماء على أن [القرآن الكريم] لا يُترجم، وإنما تُترجم معانيه، فبالترجمة يفقد إعجازه البياني. ولما كان الشعر فَنَّاً، أصبحت ترجمته من باب الخيانة، والخيانة دَرَكات، إذ المترجِم لا ينقل الإبداع، وإنما ينقل المعاني.

وليس ببعيدٍ أن تكون الترجمة برمتها جناية على صاحب النص الأصلي.

ولأنني ممن لا يُحْسنون إلا لغة واحدة، فإنني من المكتوين بنار المترجمين، ولقد ينتابني الخوف من خيانة المترجم، فأتوسل بأكثر من مترجم لعمل واحد، وكم ينتابني التذمر حين أجد البون شاسعاً بين مُتَرْجِم وآخر.

وَجَدْتُ ذلك في ثلاث ترجمات لـ[الأرض اليباب] لـ[اليوت] حتى لقد غادر [اليوت] نصه مأسوفاً عليه، ولم تبق منه بقية، إذ حل محله المترجمون الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.

إذاً لا أحد يُسَلِّم بأن الترجمة أمينة، ومع ذلك تبقى من الضرورات التي يجب أن تُؤخذ بقدرها، والقراءة كذلك، لأنها مرتهنة للنسق الثقافي.

ذلكم بعض ما يتعلق بالترجمة، بكل مستوياتها، وهي إشكالية متنامية، على الرغم من الدراسات التي تحاول محاصرة المشاكل، وتفكيكها، والحيلولة دون استفحالها.

أما القراءة فشأنها أدهى وأمرّ، لقد كان [المنتج] سيد الموقف، وكلمته نافذة بدلالتها الظاهرة، وليس من حق أي صَوْتٍ أن يعلو على صوت المؤلف، وظل الجميع ردحاً من الزمن يَغُضُّون أصواتهم عند صوت المؤلف. وفجأة تلاشت مكانته، وذهبت هيبته، وحَلَّ محله [النص] بوصفه الوثيقة التي تحمل دلالتها، حتى بعد موت المؤلف. وليس من حق أحد أن يسبق النص، بوصفه الرسالة المعبرة عن مقاصد المرسل. ولكي يستجلي المتلقي مضامين، الرسالة دون الإخلال بمقاصدها، فقد هُيئت له الاستعانة على تفكيك النص بأدوات [النحو، والصرف، والبلاغة، واللغة]، وكل هذه الأدوات محاولة من المتلقي، للحيلولة دون التَّوهُّم. فالكلمة لبنة في الجملة، والجملة النحوية لبنة في بنية العبارة، والعبارات حلقات في سلسلة الأسلوب. والأدوات تخترق هذا التماسك لاستخراج الدلالة، وليس لإنتاجها. على أن الإنتاج بضوابطه المقاصدية إضافة إيجابية، ممن يحسن استثمار هذا الحق.

وكم هو الفرق بين استخراج الدلالة من مكامنها، وإنتاجها من تأويلات القارئ. وسلطة النص قَلَّلت من احتمالات الخيانة في القراءة، وتقويل الكاتب ما لم يقل.

لقد أبقت هذه السلطة للنص حرمته، وللمنتج هيبته. ولما كان الإنسان ظلوماً جهولاً، فقد سطا على المنتج والنص معاً، وسلبهما أبسط حقوقهما. وبهذه الحركة البنيوية التفكيكية تحول مركز الكون النقدي إلى [المتلقي]، ليكون الآمر الناهي، الذي يرفع صوته فوق صوت المنتج والنص، ويقترف خطيئة إنتاج الدلالة، بدلاً من اكتشافها. ولذة استلاب الحقوق، حفّزت على تكريس [نظرية التلقي]، وتتابعت المؤلفات التي تنفخ في نظرية التلقي، وتمنح المتلقي السلطة المطلقة.

ولتحقيق هذا السطو نُحِّي الشَّرْحُ والتَّفْسيرُ، والاكتشافُ. ليحل محلها التأويل، والتفكيك.

وتقصي الجذور [الأيدولوجية] لـ[نظرية التفكيك] تُبْعد النجعة، وتندلق معها أقتاب نظريات، لا أول لها، ولا آخر.

ولأنني لا أحمل في هذه المقاربة هَمّ تحرير المصطلحات، عبر التقصي للتاريخ، والدلالة، والمقتضى فإنني لن أمضي مع الأجواء التي تشكَّلت في فضاءاتها تلك النظرية المشكلة. وليس هناك من بأس حين نشير إلى [التوليدية] و[التحويلية] و (التأويلية) و (التفكيكية) وهي نظريات نشأت في ظل ثورة علم اللغة الحديث، وتُعد هذه النظريات من محققات الخيانة القرائية. ولأن الخيانة لم تكن قصراً على ثلاثية [التفكيك] و[التحويل] و[التوليد] وما يقابلها في التراث العربي من [التأويل] و[الكشف الصوفي] فإن ما هو أخطر من ذلك كله الخلفية الثقافية للمتلقي، والنوايا المبيتة، وسلطة المذهبية، والطائفية، والحزبية التي تصنع الدلالة المبتغاة، بصرف النظر عن كوامِنْ النص، ومقاصد المنتج. وتلك أم الخبائث، ورأس الفتنة.

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب