Tuesday 12/11/2013 Issue 15020 الثلاثاء 08 محرم 1435 العدد
12-11-2013

تَقْمِيشاتٌ من السِّيْرَةِ الذَّاتِيَّة..! «2»

عندما وصلت إلى مصر، كنت مثقلاً بقراءات مهيمنة. والمشاهد الفكرية والسياسية كالمشاهد الإنسانية، يتمكن بعض الأناسي من السيطرة عليها، وإن كان المُهيْمِنُ شخصاً مفضولاً. وبمثل هذا تكون بعض القراءات مفضولةً هي الأخرى، ولكنها سبقت فاسْتبدَّتْ، وأصبح الخلف يجترونها..

ويتوارثونها، وكأنها بُرْهان قَطْعِي الدلالةِ والثبوت. وحين تسود مثلُ هذه القراءات، يكون المشهد الأدبي مُفْتقِراً إلى مُتَمرِّدين لوجه الحق، لا يخشون فيه لومة لائم.

والمجددون: إما أن تَعِي الدهماءُ سلامة مقاصدهم، فيكونون أبطالاً مخلَّدين. أو تلتبس عليهم الأمور، ويثور عليهم الرأي العام، ويجد من يُهَيِّجه، ويؤزه أَزَّاً، ثم يكونون مُجْرمين خونة، مصيرهم إلى السجون، أو المشانق. وكم من مصلح جاء في غير وقته، فاعتورته السهام، حتى إذا اثخنته الجراح: الحسية والمعنوية، رضي من الغنيمة بالإِياب.

والتَّحري يكشف عن ضحايا أبرياء أدركتهم (صيحة العامة). وكم من حكيم استعاذ من تلك الصيحة. وتاريخ الرجال يكشف عن مثل ذلك. أذكر -على سبيل المثال -ما لقية أمام المفسرين والمؤرخين (أبو جعفر ابن جرير الطبري تـ 310هـ) الذي أوْذِيَ من عَوامِّ الحنابلة -كما يقال - بسبب تَشوِيه (الظاهريين) له، وافترائهم عليه.حتى لم يتمكن مُشَيِّعوا جنازته من دفنه إلا ليلاً. ومن المتأخرين (عباس محمود العقاد) الذي حَمَل عليه (الرافعي) وأُخِذَ قولهُ بالقبول، وتتابع الدارسون على تداول مقولاته، والتِماس مؤيدات لها. نجد ذلك عند الكاتب المندفع (غازي التوبة) وآخرين. مع أن (العقاد) أفضل بكثير من (الرافعي) رحمهما الله جميعاً.

في مصر كما قلت مُسَلَّمات لا يجوز المساس بها، وهي بحاجة إلى نَقْضِ إحكامِها، وإعادة صياغته. ولكن أين الذين يغامرون في الاقتراب من عِشِّ الدبابير؟.

لقد تحول (نجيب محفوظ) إلى رمز وطني بعد حصوله على (جائزة نوبل) للآداب، ولم يستطع أحد تفكيك أعماله الروائية: لغوياً، ودلالياً، وفنياً، بمعزل عن هيمنته، ولمَّا تَزَل قداستُه تنمو يوماً بعد يوم، مع أن المشهد السردي يحفل بمن هو أفضل منه، لغة، وفنا، ودلالة. وهو مع هذا علمٌ في راسه نار -ولا شك - ولكن فوق كُلِّ ذِي فَنٍّ رفيع مَنْ هو أرفع منه فناً.

لم أكن وأنا أنقب في مكتبات مصر، وأقضي بين رفوفها سحائبَ الأيام، و هزائعَ الليالي، واختلف إلى منتديات الأدباء قادراً على البوح بما أعانيه من تلك القراءات المهيمنة. فأنا غضُّ الإهابِ، ضعيف الجناب، وفي الأمثال:(ياغريب كن أديباً) ومن ثم أكتفي بالإشارة عن العبارة. ولم تكن مصر بِدْعاً من المشاهد، ففي مشهدنا المَحَلِّي قد لا يجرؤ أحد على المساس برموز الفكر والأدب، الذين أخذوا حكم رواة (البخاري) مِمن يقال عنهم: (تجاوزوا القنطرة). فمن ذا الذي يستطيع مراجعة تراث العلامة (حمد الجاسر) أو (عبدالله بن خميس) أو( محمد العبودي) ؟ ومع أنهم ملء السمع والبصر، إلا أنهم في النهاية بشر، يؤخذ من قولهم ويرد.

وكان (أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري) ممن لا يتخوفون من مقاربة هذا الصنف من العمالقة، وقد لقي في مغامراته تلك نصبا. وكانت لي محاولات متواضعة مع بعض الرموز، قوبلت بالاستنكار الشديد، والتحامل الجائر، ولو دُفِعَتْ بالتي هي أحسن -بوصفها حقاً مشروعاً- ونوقش ما يُتَوقَّع أنه تحامل، أو تعدي، لكان في ذلك إثراءٌ للمشهد، وحيلولةٌ دون التقديس الزائف، أو التصنيم الممقوت.

ولما آسفونا بعنف الردِّ، انطوينا على أضغاننا، وكدنا نعتزل القوم، وما يُعَظِّمون.

في مصر التقيت مع لفيف من لداتي، وتناوشت معهم بحذر شديد، وحاولت تَنْحية القراءات التسلطية، التي سَدَّتْ المنافذ، وعَطَّلت المراجعة السليمة. فَمِنْ سيئات التصنيم الإغماضُ في الحشف، وسوء الكيل، ولم يكن العرب بدعاً من الأمم. فالذي كتب عن (نهاية التاريخ) يقطع بأن الأنموذج (الأمريكي) يُعَدُّ آخر صيحات التغيير.

في مصر كانت مدرستا (الديوان) و(أبولو) طاغيتين على المشهد النقدي، منهما يَصْدُر الكتبة، وإليهما يَرُدُّون. ولقد تضَخَّم أثرهما، حتى أصبح كتاب (الديوان) بِجُزْءيْه، كـ(الكتاب) لسيبويه، من لم يقرأه فليس له نصيب في علم النحو، فكأن كِتاب (الديوان) دستور النقد وعنوانه.

عَيْبِي الشائع أنني حين قدمت إلى مصر كانت قراءتي عن النقد ورموزه من ناتج القراءات التسلطية. وكم هو الفرق بين أن تقرأ الشيء، أو تقرأ عنه. لقد كنا نتوسل بالآخرين، لاستكناه مناهج المدارس ومستخلصاتها. وبهذا كنا مقلدين، لا مجتهدين، ومُؤْتَمِّين بالآخر، لا مستشرفين، وكم نحن بحاجة إلى الاعتراف بالحقيقة، فالشجاعة والثقة تُهوِّنان الاعتراف بالخطأ، وهو الخطوة الأولى للتصحيح.

كان من أولويات اهتماماتي أن أقرأ العمالقة من خلال ما قالوا، لا من خلال ما قيل عنهم، وهذا النوع من القراءة مغامرةٌ محفوفةٌ بالمتاعب، لأنها فَرْيٌ ذاتي، وتشكيلٌ لرؤيةٍ ذاتيةٍ، ورأي يتحمل الكاتب تبعاته، وإن كانت مثل هذه القراءة من أولويات الذين يريدون شق طريقهم بأيديهم. والقراء النبلاء هم الذين يستغنون عما سواهم، ليفترسوا القضايا بأنفسهم، ويشكلوا مواقفهم من خلال رؤيتهم الخاصة، التي يصنعونها بأيديهم، ولقد قيل: ( الليث ليس يسيغ إلا ما أفترس) والمجتهدون من الفقهاء هم الذين تخطوا إلى النص، ولم يكتفوا باستنباط من سلف.

دخلت المكتبات، وزرت المنتديات، وجادلت، وجالدت، وذقت لذة الاكتشاف. كان المستشرقون في نظري جَهَلةً كذبةً متآمرين.هكذا علمنا (محمود محمد شاكر) في مقدمة أحد كتبه الأطول، والمطبوعة منفردة تحت عنوان (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) وهو الكُتَيِّبُ الذي تفضل بإهدائه إلي معالي الأستاذ (عبدالعزيز السالم) وأخذت ما فيه من نتائج بوصفها قضايا مسلمة، لا تشوبها شائبة من تحامل. وفي مصر امتدت يدي إلى كُتُبٍ ألَّفَها المستشرقون، وأخرى حققها بعضهم، ولم تكن موجودة بأرض قومي، فكانت بالنسبة لي كما لحم (الضب) عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكرهه، ولا يحرمه، لأنه لم يكن في أرض قومه. لقد أحسست أني حُرِمْتُ من لذائذ الفكر، وغرائب الرؤى، وسليم المناهج. كان ذلك عند القلة منهم، ولم أكن خِباًّ، ولا يخدعني الخِبُّ. كان من المستشرقين من هو مُجَنَّدٌ لإشاعة الفتنة، وترويج قالة السوء. وكان منهم الصليبيون الذين يحاربون بالقلم، مثلما يحارب غيرهم بالسلاح، ولكن المسلم مُطالبٌ بالعدل:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }، فمن واجبنا، بوصفنا شهداء على الناس أن نقول الحق، ولو كان على أنفسنا، أو الأقربين.

المستشرقون ثلاث فئات:

- فئة عالمة تبحث عن الحق.

- وفئة جاهلة تَرْجُم بالغيب.

- وفئة عالمة تكيد للإسلام والمسلمين.

والخبير من يُفَرِّق بين الفئات الثلاث، ولا يَحْرم نفسه من منجز المستشرقين المتمكنين، الذين ينشدون الحق، ليضيفوه إلى حضارتهم. وقد فعلوا ذلك حين دخلوا (الأندلس) ونقلوا علوم العرب وثقافتهم، ومن ثم سطعت شمس العرب على الغرب، كما قال منصفوهم.

ومنذ ذلك الحين، وأنا أتعامل مع الاستشراق بالعدل، لا أحْرم نفسي من لذيذ معارفهم، وجميل عرضهم، ولا انجر وراء مفترياتهم.

وفيما بَعْد وجدت ما كتبه معالي الدكتور (علي النملة) من أكثر المقولات انصافاً، وإحقاقا للحق.ولَمَّا يزل (محمود شاكر) رغم تحامله ملء سمعي وبصري، ومصدر إثراءٍ لثقافتي التراثية. ومن ذا الذي لا يعرف له قدره، وهو أمير البيان العربي؟. إذ لا يدانيه حامل اللقب (شكيب أرسلان) وهو الأكثر شهرة منه، والأقل معرفة ودقة أداء.

قلت إن مصر لم تكن على توهجها حين دخلناها لأول مرة، ولكنها تحتفظ بسمعة باذخة، وفيها من ورثة العلم والأدب من يحفظ لها شيئاً من مكانتها. الشيء الملفت للنظر أن نقاد (المغرب العربي) بدأ يَسْطعُ نجمهم بفضل مبادرتهم في تلقي المستجد من مناهج النقد اللغوي.لقد شُغِل النقاد المصريون بالحداثة، وما بعد الحداثه. وعلى الرغم من أن الناقد الأمريكي من أصل مصري (إيهاب حسن) كان رائد المنظرين لما بعد الحداثة، إلا أنه منذ أن هاجر إلى أمريكا عام 1946م وحتى وجودنا في مصر عام 1972م لم يعد إليها، ولم يصل إلى المشهد العربي كتابٌ واحدٌ من كتبه، التي تُرْجمت إلى مختلف اللغات. ولَمَّا أزل حتى الآن أقرأ عنه، ولا أقرأ شيئاً من مقالاته، أو دراساته، أو كتبه. ولو بادر المترجمون المصريون إلى ترجمة كتبه، لكان بإمكانهم التأسيس المعرفي للحداثة وما بعد الحداثة، ولكنهم لم يفعلوا، ومن ثم تضاءلت الحداثة، وبادرتها مناهج نقدية حديثة، نَحَّتْها عن المشهد، وانفض سامرها. ومن عجب أنها اشتعلت في أدبنا المحلي بشكل مزعج، وتبناها من لا يعرف أبجدياتها، ومع هذا الخلط كانت لها آثار جانبية، إذ حَرَّكت المشهد النقدي، وحَفَزَت التراثيين إلى تلميع تراثهم، وإحيائه، والرحيل به، أو الرحيل إليه، والتمترس خلفه (ورب ضارة نافعة)، ولو استرسلتُ مع حكايتي مع الحداثة لبعدت علي وعلى قرائي الشقة، ولكني قد أُلِمُّ بها بين الحين والآخر. ولقد وعدت بإصدار كتاب تحت عنوان (أكَتُبُ ما حدث لأنه حدث) ونشرت بعضاً منه، وحاضرت في البعض الآخر، ولما يلتئم شمل البقية. وإن كان في العمر والجهد بقية، فسوف أعود إليه، وأخرجه للناس كشاهدٍ على العصر.

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب