Tuesday 05/11/2013 Issue 15013 الثلاثاء 02 محرم 1435 العدد
05-11-2013

عفا اللهُ عن طَه حُسين مَا أظْلَمه لِنَفْسِه..!

أنا أحب طه حسين حُبا جِبِلِّياً، وأكرهه كرها: عقدياً وفكرياً. وما فرغت له، وانتبذت بأحد كتبه من مشاغلي مكاناً قصيًّا،إلا تمنيت أنه استقام على الطريقة، فَمِثْله مكسب لمن يَظْفر به، وفي الأثر المختلف في صحته ولفظه:-

[اللهم أعِزَّ الإسلامَ بأحَبِّ العمرين إليك]. وليس هناك ما يمنع من الحب الجِبِلِّي،لأي إنسان، وإن كان كافراً. وطه حسين مَعْصُوم بكلمة التوحيد، مأخوذ بما قصر به من حقها.وكيف نَتَخَوَّفُ من إعلان حُبنا لعمالقة الفكر والأدب والسياسة الذين نختلف معهم،ونستفيد منهم، والله سبحانه وتعالى يقول لرسوله:- {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ}. قد يقول قائل: إن في الآية إيجاز حذف، وأن النص بدون الإيجاز [من أحببت هدايته] ولست مع من يذهب هذا المذهب، ذلك أن الحُبَّ الجِبِلِّي مشروع بأكثر من نص، وبأكثر من فعل. خذ على ذلك إباحة الزواج من الكتابية، وإن بقيت على نصرانيتها أو يهوديتها. والزواج لابد له من الحب الجبلي والمخالطة. والمخالطة تنقلنا إلى حكم نجاسة الكافر. هل هي عينية أو حكمية؟. والصحيح أنها حكمية، ومن ثم أبيح طعام الذين أوتوا الكتاب، ثم إن الله لم يطلب منا مُعاداة من لم يقاتلونا في الدين، ولم يخرجونا من ديارنا، أن نَبَرَّهم، ونقسط إليهم، ونتبادل معهم المصالح، ونفي لهم بالعهود والمواثيق. ومن تصرف خلاف المقاصد، فهذه مسؤوليته.

و[طه حسين] الثائر المثير، ليس بكافر, ولا منافق.ولكنه ضال في بعض ما يذهب إليه. وحبي له مرتبط بغزارة علمه، وسعة ثقافته، وبراعة جدله، وجَمال عَرْضِه،وروعة أسلوبه المتأنق الذي يعد من السهل الممتنع. إنه بحق مرحلة فاصلةٌ، نستطيع استبانة أثره في التحولات الفكرية والأدبية والأسلوبية التي أحدثها مع مجايليه. وجناحه في مكتبتي الذي يشتمل على كل ما أملاه من كتب، وكل ما كُتِبَ عنه، لا يَعْلوه الغبار،لأنني أتَعَهدُه بالمراجعة، وهو من المؤثرين في أسلوبي. بل أكاد أقع في شرك التقليد، وبخاصة حين أهم بالكتابة،ثم أكون حديث عهد بأي كتاب من كتبه الممتعة.

لقد حارب خصومه بنعومة أسلوبه، وحُورب من بعض خصومه بخشونة الأساليب وركاكتها. والذين يصبحون يشمتون به، يغفون على إيقاعه الجميل. إنه بحق مدرسة من مدارس البيان، وإذ أقول بملء فمي: لا أدب لمن لم يقرأ كتاب [الأغاني] لأبي الفرج الأصفهاني، على الرغم من أنه من أكذب الكتب، وقد كتبتُ مقالاً، ونشرته في هذه الجريدة، تحت عنوان [أعذب الكتب وأكذبها].

ولا أسلوب لمن لم يقرأ ما أملاه [طه حسين]. فهو أعمى، يُمْلِي على كاتبه. ولقد سمعت من شيخي [عبدالقدوس أبو صالح] -إن لم تخني الذاكرة- قوله:- [المتحدث الوحيد ارتجالاً بدون لحن, أو تلعثم طه حسين]. ومن أمتع الرسائل [الأكاديمية] رسالة تناولت أثر العمى على أسلوبه.

الشيء الذي غَفَل عنه أكثر الدارسين جمعه بين التراث والمعاصرة، فهو مُلِمُّ بالتراث: شعره ونثره وقُرْآنِهْ،إلمام مقتدر مؤصِّل، لا إلمام مثقف عابر. ولما استوت معارفه التراثية على سوقها، اتجه صوب اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية، وأسرف على نفسه وعلى ثقافته بالإشادة المطلقة بالثقافة الغربية،وحرصه على تغريب العالم الإسلامي، والأخذ بأسلوب الحياة الغربية. الأمر الذي ألَّب عليه الرأي العام العربي، وأثار العلماء الشرعيين، والأدباء التراثيين،وأدى إلى طرده من الجامعة،بل سبق ذلك محاولة حرمانه من استكمال دراسته في فرنسا.

أكتب تلك الخواطر العابرة،وأنا أتابع ما يكتبه خصومه وأنصاره بمناسبة مرور أربعين سنة ميلادية على وفاته.

لقد مات في أحرج اللحظات التي تمر بها الأمة العربية، في [حرب أكتوبر] التي شدت الأعصاب، وأذهلت الناس، ومن ثم عبر المشهد دون أن يحفل به أحد، وهو قد شغلهم حيًّا وميتًّا، مثلما شغل المتنبي مشاهد الأدب، وقال مباهيا:

[أنام مِلْ جُفُوني عنْ شواردها .. ويسهر الخلقُ جَرَّاها ويختصم].

والخصوم والأنصار تجيش فيهم عواطف الكره والحب، ثم لا يقولون إلا كذبا، وكم تمنيت الفراغ للتوسط بين الأطراف المتنازعة.

[طه حسين] خرج من مصر يحمل أضغانه على طريقة الأزهر في التعليم،وتسوؤه الأحوال المتردية في عالمه العربي. وحين وجد [السوربون] فيه ضالتهم، وفروا له الأجواء الملائمة، ليصنعوه على عين الحضارة الغربية، فكان أن تلقفته [سوزان] زميلة ذكية وزوجة متنفذة، أغدقت عليه كافة المعارف الغربية، وأصرت على فرنسيتها، حتى فارقت الحياة، على الرغم من عشرات السنين التي قضتها في عصمته بمصر، وعلى الرغم من مرافقتها له في المؤتمرات العربية والإسلامية. وعَيْشُها في مصر طيلة حياتها معه فإنها لم تترك نصرانيتها، ولم تستبدل لغتها.

وحين أخرج إلى الناس كتابه [في الأدب الجاهلي]، أقام الدنيا، ولم يقعدها،لأنه قال [كلمة الكفر]، التي لا تقبل التأويل. ولما حُوكم أعيد طبع كتابه، وحذفت منه تلك العبارة الصارخة، ثم أعيد طبع كتابه على ما كان عليه من قبل. تلك واحدة من جناياته المُصْمية، وهو حين احتفى بالدارسين المنحرفين فكرياً،وتفسح لهم في أروقة الجامعة، أثار الرأي [الأكاديمي]. ثم تتابعت كتبه التي تحوم حول الحمى،وقد تقع فيه: [على هامش السيرة] [الفتنة الكبرى] [مستقبل الثقافة في مصر] [المعذبون في الأرض] [في الأدب الجاهلي].

وحين عَمَّق العداوة مع الدين والتراث،وأمعن في التطرف, أخذه الغيورون على تراثهم أخذ عِزَّةٍ واقتدار، وأسرفوا في النيل منه. وما كان بودي أن تُفْقد المصداقية في الصراع الفكري، معه أو مع غيره، ذلك أن المقاصد الإسلامية تُعَوِّل على المصداقية:- {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.

[طه حسين] أنجز كتباً، وعالج قضايا، وتبنى أفكاراً، ليست سيئة بالقدر الذي يصفُ خصومه. والداء العضال المستشري عند كثير من المفكرين رفع القداسة عن [الوَحْيَيْن]، والخوض في المسكوت عنه، لاقتناعهم بأن حرية التفكير والتعبير لا تتحقق إلا برفع الأصوات فوق صوت النبي, والجهر له بالقول، وذلك بعض مقترفات [طه حسين] ومن هم على شاكلته. والرفع المنهي عنه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان حِسِّياً، والرفع بعد وفاته يعني التطاول على النص القطعي الدلالة والثبوت من الكتاب والسنة.

والفكر المعاصر، والمفكرون المعاصرون،يَمَسُّهم دخنُ الشك والتجني والخوض في المحظور.

هلك [طه حسين] وفي نفسه أن يكمل كتابين من أنفس كتبه [الأيام ] و[الفتنة الكبرى]، وليته أكمل الأول، وَدَسَّ الآخر في التراب، إذ لا طاقة لنا في أن نمسكه على هُوْن.

وهو إذ فارق الحياة، فقد خَلَّف ثروة أدبية واجتماعية وفكرية لم تستقر حولها الآراء.

وكلما احتدم الجدل بين أطياف المجتمع جُرَّ المفكرون من أجداثهم, للتشفي من الأحياء الموالين: - [كالثور يُضرب لما عافت البقر]. والاختصام حين تحكمه الانفعالات والأفعال وردود الأفعال يرتفع رصيد الغثائية، ولا تزداد المشاهد إلا خبالا، وأسوأ حالات الانفعال التسليم للتقلبات السياسية،ذلك أن الصراع الفكري حين تُصَرِّفه اللعب السياسية،يفقد مصداقيته ومرجعيته المبدئية. وذلك ما نعانيه في حاضرنا المضطرب، فبعض المفكرين تُجَرُّ قدمه من حَيْثُ لا يفكر ولا يقدر، فإذا فَكَّر وقَدَّر، وحاول الخلوص من ردغة السياسية، اعتورته السهام، وأردت سُمْعته، ثم حُوِّل كل منجزه الفكري لمزبلة التاريخ،بسبب جرائر السياسة التي لا تستقر على حال.

و[طه حسين] لم تُجَرَّ قدمه لمعترك السياسة، ولكنه يقاربها على حذر، وهو على خلاف [البوطي] و[سيد قطب] و[ القرضاوي] وآخرين، استدبروا الفكر, واستقبلوا فَنَّ الممكن في السياسية وتقلباتها، فذاقوا وبال أمرهم، وتحملوا شطراً من أوزارها. وهو إذ قارب السياسة على حذر شديد، على خلاف مجايله [عباس محمود العقاد] فإنه خاض المعترك الفكري، ولم يتهيب منازلة أساطينه، والنيل منهم، والعمل على تهميشهم، بل والسعي لطردهم من الجامعة، فعل ذلك مع [زكي مبارك] الناقد الأعنف، الذي قال كلمته المضحكة [إذا قطع طه حسين رزق أولادي فسأطعمهم من لحمه،إذا أفتاني الفقهاء بجواز أكل لحم الكلاب].

ولقد استوفى المريدون معاركه، ونافحوا عنه، واجتهدوا في تبرير استغرابه الذي استفتحه بكتابه الضجة [مستقبل الثقافة في مصر] وهو كتاب يتسم بالاندفاع المتهور صوب الثقافة الغربية، ويرى أنها المنقذ للتخلف العربي، وقد تصدى له كل من [سيد قطب] في كتابه [المستقبل لهذا الدين] و[محمود محمد شاكر] في كتابه [المتنبي] ومن قبل أولئك [مصطفى صادق الرافعي] في كتابه [تحت راية القرآن الصراع بين القديم والجديد].

وفي عدد من مقالاته في كتابه [وحي القلم].

والمعارك الفكرية والأدبية والسياسية في مصر استهوت أدباء الوطن العربي، وحاولوا نقلها إلى بلادهم،لأن فيها حيوية وإثارة واستقطابًا، ولربما يكون [العواد] و[العطار] و[الأنصاري] و[شحاتهٍ] في الحجاز من أوائل الأدباء الذين تلقفوا تلك المعارك، وحاولوا محاكاتها، ولأني أشرت إلى شيءٍ من ذلك بالتفصيل في [سيرتي الذاتية] التي بدأت أنشر تقميشات منها، فإنني لن أطيل الوقوف عند هذا الجانب.

في النهاية سيبقى [طه حسين] إشكالية تَخْتَصم حول أفكاره الأجيال، وما نوده ترشيد هذا الخِصام والوسطية في إدارة مثل هذه القضايا الساخنة معه، ومع سائر من نختلف معهم, فقد مللنا التناجي الآثم، وتصديع وحدة الأمة الفكرية، وذهاب ريحها. ويكفي أن كُلاًّ يؤخذ من قوله ويرد، إلا قول من لا ينطق عن الهوى.

لقد اقتيد [طه حسين] إلى المحاكمة، وهو يردد :[ ماذا تريدون من رجل يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ]. لكن الوثائق التي تركها وراء ظهره،لا تَمَكِّن المستبرئ لدينه وعرضه من التغاضي عنها{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا}.

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب