Sunday 08/12/2013 Issue 15046 الأحد 04 صفر 1435 العدد
08-12-2013

(دوماً .. معاً) في لؤلؤة الحرية (دبي)..

أعادت إليَّ مناسبة (دوماً معاً) الإعلامية الإعلانية الترويجية.. التي دعا إليها قياديو (مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر)، وأنفذها شباب المؤسسة من الإعلاميين والإعلانيين والإداريين.. بأعلى درجات المهنية والإتقان مساء يوم الأربعاء الماضي في حدائق فندق (الميريديان) بمدينة (دبي).. ما انقطع

بيني وبين هذه المدينة صاحبة التاريخ المتوارث في (حرية التجارة) بين كل الموانئ الخليجية قاطبة، حيث كان يأتيها الناس من مدن الجزيرة العربية وفارس والهند ومن أقاصي الشرق وأدناه.. ليبتاعوا فيها (كل) شيء من أنواع الحرير والتوابل والتبغ.. إلى المجوهرات والألماس والذهب.. إلى ما لا يجوز التصريح به، والتي قادها تاريخها مع (حرية) التجارة.. إلى فضاءات الحرية الأوسع: الأكبر والأعظم والأجمل.. من القول والكتابة والنشر إلى استضافة تلك المهرجانات الفكرية والفنية والأدبية والمسرحية والغنائية.. إلى جانب استضافتها للقاءات النخب الخليجية المتهمة بـ (تغريدها) خارج السرب، والتي عادة ما تعتذر عواصم الدول الخليجية عن استضافتها، وهو ما جعل من (دبي) مدينة (منتدى التنمية الخليجي) المفضلة في عز أيامه وصولاته.. إلى جانب مدينة (الشارقة) التي تشاركها أحلام الحرية.. وإن لم تقو على فعلها - دائماً - بمثل ما كانت تفعل (دبي)، وهي تفتح أبوابها وصدرها لكل أصحاب الرؤى من أعضاء (المنتدى)، الذي شرفت بعضويته بامتداد التسعينيات الماضية.. ثم انقطعت عنه - في ختامها - بعد اختياري لعضوية (اللجنة التنفيذية) المختصة بوضع برامج المنتدى واختيار مواضيع دراساته وحواراته بصفة عامة وحواره الرئيسي لاجتماعه التالي بصفة خاصة، فكان أن تقدمت للزملاء - وقد كانوا خمسة أو ستة - بفكرة أن يكون موضوع حوار (المنتدى) للعام القادم.. عن حقوق الإنسان في الخليج!!

ولكن..

ولأن موضوع (حقوق الإنسان).. كان - آنذاك - حساساً وحرجاً.. بل وغير معترف به من قبل معظم الدول الخليجية، فقد آثر معظم الزملاء الأفاضل السلامة.. بمعارضتهم لـ (الفكرة)، وهو ما دعاني للانفضاض.. عن عضوية اللجنة.. بل وعن متابعة حضوري لجلسات (المنتدى)، التي كانت تعقد في (دبي) كل عامين تقريباً.. مع قيمة وأهمية القضايا الخليجية التي كانت تطرح في (المنتدى).. إلا أن القليل أو النادر منها هو ما كان يأخذ طريقه إلى أرض الواقع نتيجة تهيب أولئك المثقفين الكبار وخوفهم من أن ينعكس إلحاحهم على واقع حياتهم وطموحات بعضهم الوظيفية والإدارية، ليحرمني انفضاضي عن (المنتدى).. من مواصلة علاقاتي الحميمية مع كثير من أعضائه الأعزاء، ومن متعة التردد.. على مدينة (دبي) ولو مرة في العام..!!

* * *

لقد امتد انقطاعي عن (المدينة) ربما لعشرة أو خمسة عشر عاماًَ.. بينما كانت تأتيني أخبار سباقها مع (التقدم) - عمارة وتخطيطاً وتنظيماً وسهولة في الوصول إليها ومغادرة لها في ظل سيادة من (القانون) يخضع لها الجميع - من الإعلاميين ورجال الأعمال بحد سواء، من الذين هاجروا إليها أو افتتحوا مكاتب (فرعية) لهم فيها.. من أبناء المملكة ورجال أعمالها بل وشبابها الباحثين عن فرص جديدة لهم، حتى بدا لي.. وكأن المحرك لتلك الأخبار الوردية عن (دبي).. هو استفزاز الواقع المعاش في مدن المملكة - بل والكبريات.. منها - بهدف تغييره إلى الأفضل.. ربما يدفع أحياناً لـ(اجتراح) المبالغات في تصوير ما حدث ويحدث في (دبي)، ولكن تلك الأخبار لم تقف عند الإعلاميين والتجار أو رجال الأعمال أو الباحثين من الشباب عن فرص مستقبلية لهم وحدهم.. ولكنها كانت تمتد إلى الكهول وشباب الثلاثينات ومَن دونهم ممن أخذوا يفضلون قضاء عطلهم السنوية أو حتى الأسبوعية.. في (دبي) بعد أن انشغلت عنهم بيروت بـ(هواجسها)، والقاهرة.. بـ(إخوانها) ورعونتهم إبان حكمهم وانفلاتاتهم الأمنية بعد زواله..!

كانت أخبار (دبي) الوردية تحيرني في خصوصها وفي عمومها.. فلا أدري أين أقف منها، ليفاجئني هاتف من مكتب مدير عام مؤسسة الجزيرة المهندس (عبداللطيف العتيق) بصوت الشاب (محمد العنزي).. وهو يدعوني لـ(المشاركة) حضورياً في فعالية (دوماً.. معاً) التي قررت (المؤسسة) إقامتها في مدينة (دبي) وعلى مدى ثلاثة أيام، وبحضور رئيس وأعضاء مجلس إدارة المؤسسة وصحفييها وكتابها ومدراء شركات إعلانها ووكلائهم بهدف التعارف والحوار المجتمعي بينهم، بما يسهم في اكتشاف الآفاق المستقبلية للمؤسسة ولصحيفتها (الجزيرة) التي حققت مراكز إعلامية متقدمة على أكثر من صعيد.. لعل آخرها نقل صفحات الجريدة.. بكامل حجمها على شبكات (الإنترنيت) ليقرأها البعيدون عن منافذ التوزيع، والقريبون ممن أخذوا يعتمدون على قراءة صحيفتهم على الـ(آي باد) و(الآي فون).

ومع سعادتي بـ(الفكرة) والدعوة معاً.. إلا أن ظروف ارتباطاتي لم تكن تسمح لي بتلبيتها في الموعد المحدد (الاثنين الماضي)، وهو ما جعلني أمهد لاعتذاري عن الحضور آسفاً حقيقة.. لكن الأستاذ العنزي استملهني حتى يوصلني بالمهندس العتيق، الذي فاجأني.. عندما قال: إذا كان يوم الاثنين غير مناسب.. فـ(الثلاثاء).. أو (الأربعاء) يوم الفعالية الأهم..؟

فقلت: وهل ذلك ممكن..؟

قال: بكل تأكيد.

قلت: إذن يوم الثلاثاء، لأجد نفسي في ظهيرة ذلك اليوم على طائرة السعودية المغادرة إلى (دبي).. وإلى جواري - صدفة - أحد كبار الإعلانيين وهو يقول لي: لعلك.. لا تعلم بأن هناك أربع رحلات يومية من جدة إلى (دبي)..! وثلاث يومية من (الرياض)..! وواحدة يومية على طيران (ناس)..!

لأفغر فمي دهشة!! وفي قلبي عشرات الأسئلة.. حول هذه الأعداد الهائلة من الرحلات التي تأتي من جدة والرياض يومياً؟ ترى عن ماذا يبحث كل هؤلاء القادمين إلى (دبي)..؟!

لأجد نصف الإجابة.. في طريقي من المطار إلى فندق (صرايا).. في ذلك التخطيط الجميل للشوارع والميادين.. في تلك الزهور الحمراء والبيضاء والصفراء التي تغطي أرصفة الشوارع على طولها.. في تلك المباني التي أبدعها مصمموها هندسة وألواناً.. في تلك الإطلالة على أمواج بحر لا تحجبه المباني والأسوار الخاصة.. وفي ذلك (المترو) المرتفع عن سطح الأرض بأربعة أو خمسة أمتار.. وفي ذلك المجتمع (الكوزموبوليتاني) الذي يضم كل أجناس البشر أو معظمهم من الأمريكي إلى الروسي إلى الصيني إلى البريطاني إلى الفرنسي إلى الهندي إلى الباكستاني، أما النصف الثاني من الإجابة على (سؤال عن ماذا يبحث القادمون).. فقد كنت أعثر عليها تباعاً عبر ساعاتي الثمانية والأربعين التي أمضيتها في (المدينة) بين فنادقها ومطاعمها الفاخرة النظيفة بوجباتها الفرنسية (الميكروسكوبية) الراقية ومقاهيها التي لا تسألك من أنت، ولكنها تسألك: ماذا تريد؟.. حتى بدت لي المدينة بجديدها الذي طغى على كل قديم.. في (سيمفونية) لحنية بديعة، وكأنها سُرقت في ليل أظلم.. من مكان ما.. من قارة ما، ونُصبت في هذا المكان.. وعندما فتح أهلها أعينهم في صباح اليوم التالي وجدوا أمامهم هذه المدينة الساحرة المتناغمة!!

* * *

كانت أحاديث الليلتين وما بينهما وسط هذا الكم الكبير من نجوم الصحافة وأصحاب الأقلام والرؤى والرأي.. ثرية عريضة عميقة.. وهي تنتقل بسلاسة ومتعة من الثقافي والسياسي والأدبي.. إلى التاريخي والحضاري واللغوي وإن سيطرت عليها أحاديث السياسة وذكريات كبار الصحفيين مع (صاحبة الجلالة)، وقد كان بيننا عدد غير قليل منهم.. لتتوقف عند السؤال حول حاضر الأمة العربية ومستقبلها في ظل التهميش العاصف الذي تتعرض له، وليطول توقفها عند مستقبل (الصحافة الورقية) وسط هجمة (الإعلام الإلكتروني) خاصة بعد الإعلان - رسمياً - عن توقف كبرى الصحف الأمريكية (الواشنطن بوست).. عن إصدارها الورقي والاكتفاء بإصدارها الإلكتروني؟ لتتفاوت الإجابات بين المتفائلين ممن قالوا بنهايتها بعد عشرين عاماً.. والمتشائمين ممن قالوا بـ(موتها) بـ(سكتة اليكترونية) خلال عشر سنوات، ليلتئم جمع الحضور في حدائق فندق الميريدان - في كبرى ليالي فعاليات (دوماً.. معاً) - حول عشرة أو أكثر أو أقل من (الاستاندات)، وقد توازعتها الحديقة.. وهي تشرح وتفصل وبأعلى درجات الشفافية.. كل شيء عن (الجزيرة) وقرائها في مناطق المملكة المختلفة، ورجيعها ومناطق نفوذها وتأثيرها، وإعلاناتها وكبار معلنيها. لقد كان على كل (استاند).. لوحة إليكترونية.. تجيب عن كل سؤال وقد وقف عنده أحد شباب الإعلاميين في المؤسسة ليجيب - من لا يحسنون استخدام تلك الوسائط - عن أي أمر يستفسر عنه، فكان وجودهم بتلك الأعداد.. إحدى علامات التطور الفعلي الذي بلغته (مؤسسة الجزيرة)..! لتنتهي تلك الليلة المتميزة بموضوعها ومكانها.. بسؤال للصحفي المتقد الصديق الأستاذ عثمان العمير - وقد جمعتنا مائدة عشاء واحدة - عن قصة كتابه الأشهر (ذاكرة ملك).. وكيف بدأت..؟ وكيف انتهت مع صدوره الذي أثار موجة من التعليقات على مستوى الوطن العربي كله.. فوعد بأن يجيب عن ذلك السؤال في سلسلة من المقالات عندما تواتيه الفرصة.. إن لم تخني ذاكرتي.

* * *

في طريقي إلى المطار.. في صباح اليوم التالي.. كان يغشاني شيء من (الخوف) لوحدتي، وعدم معرفتي بمداخل المطار ومخارجه.. وقد تحدث إليّ عن كبره وضخامته من أثق بحديثه، لأسأل - موظف الجوازات - عن الطريق إلى بوابات التسوق والمغادرة.. لتنشق الأرض عن هندي ثلاثيني مهذب وهو يقول لي: تفضل سأدلك على الطريق.. فهو في طريق مكتبي! لأسلمه يدي.. فيقودني إلى الأسواق الحرة - أو ما يعرف بالفري ديوتي شوب - التي أردتها لأبتاع منها قدراً من التبغ، الذي وجدته.. ليفاجئني سعره الأرخص بثلاث مرات عن سعره في (جدة).. لأرى - ربما لأول مرة في حياتي - متاجر خالية من الضرائب الجمركية حقيقة.. لا كلاماً.. في (دبي)!

وبعد أن تكرم بإيصالي إلى صالون رجال الأعمال بالمطار.. ووضع حقيبتي التي كان يحملها عني.. مددت يدي بـ(بخشيش متوقع)، ولكنه رفض وأصر على رفضه!! فقلت له: فلا أقل من أن تخبرني باسمك..؟

فقال: (ديليب)..

لأقول له ضاحكاً: حتى أشكرك شكراً لن تقرأه.. ولكنه سيبقى في ذاكرة القراء صورة عطرة لرجل (هندي) خدم آخر ليس من جنسه ولا من لغته ولا من دينه.. ولم يتقاض عن خدمته تلك مليماً واحداً..!!

قال: هذا.. يكفي، لأرى البحر بامتداده.. وقد استوت الطائرة في السماء، لأهتف قائلاً: إيه يا (دبي).. لكأنك تلك المحارة، التي غاص الصياد في أعماق البحر بحثاً عنها.. علَّه يعود بـ(اللؤلؤة السوداء) النادرة.. فعاد بـ(لؤلؤة بيضاء) ساطعة هي (لؤلؤة الحرية).. هي هذه الـ (دبي). هي هذه المدينة الساحرة.

مقالات أخرى للكاتب