Sunday 15/12/2013 Issue 15053 الأحد 12 صفر 1435 العدد
15-12-2013

وداعاً منجم (اليورانيوم) المشع إنصافاً وسلاماً!!

عندما خرج (نيلسون مانديلا) من سجنه الطويل والمرير - عام 1989م - وهو في العام الواحد والسبعين من عمره.. كان أحرار العالم.. يشفقون عليه، فـ(السبعون) وما بعدها لا تمكنان من اقتلاع دولة عنصرية بيضاء متجذرة يمتد تاريخها إلى القرن التاسع عشر.. وقد خاضت (بريطانيا العظمى) من أجل قيامها حرباً مظفرة بلغة البريطانيين

ضد الهولنديين - أو البوير - الذين كانوا يدعونها لأنفسهم عام 1889م.. أمنت لها شرعية استعمارية وهمية.. لإقامة حكم عنصري أبيض على تلك الأرض (جنوب أفريقيا) الباذخة في مواقعها على المحيط الهندي.. عند (مضيق رأس الرجاء الصالح) - الذي كان يسمى بـ(مضيق رأس العواصف) -، وإذا كان الناشط السياسي الأفريقي الأسود (مانديلا).. قد أفاد من (اكسسوارات) الحكم البريطاني المعروفة - أحزاب سياسية وبرلمان وحكومة أغلبية منتخبة ومعارضة.. إلخ - رغم أنها كانت وقفاً على (البيض) وحدهم وفي كل جزئياتها.. فأنشأ مع صديقه (اوليفر تامبو) رابطة شباب (حزب المؤتمر) التي كان مطلبها الرئيسي كما هو مطلب.. الحزب: (المساواة) بـ(البيض).. أو بـ(الأربعة آلاف) أبيض الذين كانوا يحكمون ويتاجرون ويتملكون كل شيء في جنوب أفريقيا.. من المال إلى الأراضي إلى الوظائف القيادية إلى مناجم (الماس) فـ(اليورانيوم)، ولكن عندما خرج شباب الرابطة، وقد طفح بهم كيل العنصرية في (تظاهرة سلمية) عام 1960م.. وهم يجهرون ويزأرون في شوارع وميادين (بريتوريا) مطالبين بـ(المساواة) مع محتلهم ومغتصب أرضهم.. كان رصاص الحكومة العنصرية البيضاء في انتظارهم، ليسقط عشرات العشرات من القتلى (69).. وأضعافهم من الجرحى.. فيما عرف فيما بعد بـ(مذبحة شاربفيل)، ليقرر الناشط السياسي الشاب آنذاك (مانديلا).. إنشاء (الجناح المسلح) للحزب، وهو ما كانت تنتظره وتتمناه حكومة العنصرية البيضاء.. للإيقاع به، وتقديمه لـ(المحاكمة) تحت حجة قانونية.. لتحكم عليه - عام 1964م - بالسجن المؤبد، وعلى حزبه بـ(الحظر) المطلق.. في وقت كانت تحتفل فيه أفريقيا بأبطال دولها حديثة العهد بـ(الاستقلال) في غانا وغينيا والسنغال وتنزانيا.. من نكروما إلى سيكوتوري.. ومن سينجور إلى نيريري.

* * *

ولكن.. وقبل أن تأخذنا دموع الفراق على (مانديلا).. بعيداً، لابد وأن نذكر ونتذكر إنصافاً للحقيقة والتاريخ، أنه عند خروج (مانديلا) من سجنه في الرابعة والربع من عصر يوم الأحد الحادي عشر من شهر فبراير من عام 1989م وقد جللت رأسه كتلة بيضاء من الشعر الأجعد.. كان يرأس جمهورية جنوب أفريقيا العنصرية آنذاك: رجل أبيض.. من أصول هولندية فرنسية هو (فريدريك دي كلارك)، إلا أنه كان مختلفاً عن سابقيه في فكره ورأيه ورؤاه.. حتى ليبدو وكأنه أبيض البدن بأفكار وأماني وأحلام السود المقهورين من حوله في (بريتوريا)، الأمر الذي حمله بعد عام من خروج (مانديلا) ولقائه.. واستجابة للنداءات العالمية المتزايدة انتصاراً لـ(سجين الحرية) على اتخاذ أعظم وأنبل قرارين في حياته: رفع (الحظر) عن حزب المؤتمر، وإلغاء نظام (الفصل العنصري) المعروف بـ(الابارتيد)، وهو ما دعا العالم ليس لتكريمه وحده.. ولكن لتكريمهما (معاً): السجين والسجان بمنحهما مناصفة جائزة (نوبل) للسلام عام 1993م.

لقد قيل آنذاك.. إن (دي كيلارك) هو الذي أخرج (مانديلا) من سجنه الطويل، ليتم انتخاب (مانديلا) لـ(رئاسة) حزب المؤتمر، فيخوض به ومعه أول انتخابات رئاسية ديمقراطية حرة.. لا تفرق بين الأبيض والأسود عام 1994م، ليفوز بها (مانديلا) فوزاً كاسحاً لم تعرفه الانتخابات العنصرية السابقة من قبل... كـ(أول رئيس) أسود لجمهورية جنوب أفريقيا الديمقراطية.. حقيقة!!

لقد كان (مانديلا).. خلال سنوات سجنه الطويلة بأحزانها، والخمس سنوات التي أعقبتها.. بـ (أفراحها)، يتحول من (سجين) للحرية.. فطليق من طلقائها.. إلى راهب من رهبانها، وداعية من دعاتها: يطلبها لنفسه وأبناء شعبه.. كما يطلبها لكل المقيمين على أراضي جنوب أفريقيا من الآسيويين والأوروببين والبريطانيين في مقدمتهم الذين صهروا أجمل سنوات عمره في زنازين جزيرة (روبن)، ليقول بعيد انتخابه الكاسح من قبل السود والبيض بحد سواء: (طوال سنى حياتي.. كرست نفسي للنضال من أجل أبناء أفريقيا. لقد حاربت ضد هيمنة البيض وتسيُّدهم.. كما حاربت من بعد ضد هيمنة السود ومحاولات تسييدهم)!!

ليغدو في عيون البشرية جمعاء رمزاً من رموز الحرية.. ونبياً من أنبيائها.

* * *

لقد أمدت الأقدار في عمره بعد خروجه.. أربعة وعشرين عاماً، حتى يصنع ويشهد سقوط (أول) دول (العنصرية) البغيضة التي أقامتها بريطانيا (عرقية بيضاء) في جنوب أفريقيا.. ويرى زوالها - تماماً - بعد مائة عام وعام من قيامها!! بينما كان يتمنى أحرار العالم.. أن يمتد به العمر، حتى يشهد سقوط (ثاني دول العنصرية) التي أقامتها بريطانيا (دينية بيضاء) في فلسطين!! بعد وقفته الشجاعة أمام الرئيس الأمريكي الأسبق (بوش) الابن وقد أخذ قراره الأحادي - المعتوه - بشن الحرب على (العراق) بحجة امتلاكه لـ(أسلحة الدمار الشامل) التي لم يعثر عليها مفتشو الأمم المتحدة.. عندما صرح (مانديلا) موجهاً كلامه لـ(الرئيس) نفسه.. قائلاً: (إن مشكلة الولايات المتحدة الأمريكية في العراق.. هي أنها تريد أن تكون “المدعي العام” و”القاضي” معاً.. وكيل النيابة والحكم معاً)، وهي ذات مشكلتها مع دولة العنصرية اليهودية في (فلسطين).. إلى يومنا هذا، فكل الفلسطينيين في نظر أمريكا (إرهابيون) بمن فيهم حملة (نوبل للسلام) مناصفة مع إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل عام 1995م، وكل الإسرائيليين اليهود (ملائكة) أبرياء.. بمن فيهم (شارون) و(شامير)!! ولكن تلك هي غطرسة القوة الأمريكية، التي ستتحطم بسواعد الفلسطينيين ذات يوم.. وربما بـ(مانديلا) فلسطيني يخرج من زنازين الاحتلال الإسرائيلي، ليكرس (مانديلا) الأيام الأخيرة من حياته لمكافحة مرض نقص المناعة - الإيدز - الذي فتك ويفتك بفقراء وبسطاء أفريقيا، وليترأس مجلس حكماء أفريقيا في ما بعد لفض المشكلات العالمية.. حيث شاء حسن حظ شبيبة جنوب أفريقيا (بيضاً وسوداً) أن يشاركهم (مانديلا) فرحتهم وبهجتهم باستضافة دورة (كأس العالم) لعام 2010م في مدن جمهورية (جنوب أفريقيا)، والتي يصعب عليَّ استبعاد (مانديلا) وصورة كفاحه الباسلة ضد العنصرية.. من أن تكون من بين أسباب رجال (الفيفا) إن لم تكن في مقدمتها عند اختيارهم لـ(جنوب أفريقيا)، لتكون البلد المضيف.. لكأس العالم في تلك الدورة. فبلد مناهض العنصرية الأول.. والذي دفع أغلى الأثمان لقهرها.. لابد وأن تكون هي الأولى والأوْلى عند المفاضلة بينها وبين سواها، ليتشرف (كأس العالم) باستضافة بلد (مانديلا) له..؟!

* * *

إن العالم الذي التف بكل رموزه وزعاماته وهاماته.. حول جثمان (مانديلا) المسجى في قاعة المدينة - ببريتوريا - ظهر يوم الثلاثاء الماضي، وهي تؤبنه وتبكيه وتستعيد صور كفاحه.. إنما كان يقدم (اعترافاً) حياً نابضاً بحاجته إلى (مانديلا) وكفاحه ضد العنصرية ودعوته للحرية والعدل والمساواة التي حملها طوال الخمسة والتسعين عاماً الماضية من عمر الزمن.. لكل البشر، فكان طبيعياً أن يتوارى عن ذلك المشهد الجليل.. صناع وقادة (ثاني) دول (العنصرية) التي دعت بريطانيا لقيامها في (فلسطين) عام 1917م وتحققت على يديها عام 1948م من بيلير إلى كاميرون.. ومن بيريز إلى نتنياهو، فالقاعة كـ(التاريخ الحق).. لم تكن لتتسع لأي منهم..!!

وعندما يوارى جثمانه اليوم بعد إتمام طوافه على مدن جمهورية جنوب أفريقيا.. في قريته النائية (كونو).. فإن تاريخاً جديداً سيولد في ذات اللحظة لـ(مانديلا) ولـ(كونو).. التي ستصبح محجة ومزاراً للأحرار من كل أنحاء العالم.

فوداعاً (مانديلا) العظيم.. وداعاً يا (منجم اليورانيوم) الذي يشع إنصافاً وسلاماً، ولا أقول بما قاله شاعر أفريقيا وأحزنها (محمد فيتوري).. وهو يتمثل وداع (العبيد) لقارتهم.. وهم في طريقهم إلى (القلعة) حيث يتم تصديرهم لأسواق (النخاسة) في العالم:

(فوداعاً يا أفريقيا

يا رمحي المكسور

يا أفريقيا يا كوخي المهجور

يا أفريقيا يا وجهي المذعور)!!

فقد مر من هنا بعد أن كتب (الفيتوري) قصيدته الحزينة تلك على ألسنة (العبيد).. رجل اسمه (نيلسون مانديلا)..!!

مقالات أخرى للكاتب