Tuesday 17/12/2013 Issue 15055 الثلاثاء 14 صفر 1435 العدد
17-12-2013

لنعرف ما في البرازيل!

الكهول ممن عاصروا مسلسل “حمام الهنا” الذي استحوذ على الأمسيات الرمضانية في عموم العالم العربية لعدة سنوات في أواخر السبعينات، سيتذكرون حتما عبارة حسني البرازان، “إذا أردنا أن نعرف ما في إيطاليا علينا أن نعرف ما في البرازيل!”،

وأتى ذلك في سياق فكاهي يجسد فيه البرازان كاتب صحفي عربي يكتب كيفما اتفق من واقع مخيلته لأنه كان يعتقد أن العرب يصدقون كل ما يكتب لهم، ولذا لا مانع أن يكتب لأي شيء. أما صديقه غوار الطوشة فيمثل الجانب المتلقي أي المواطن العربي الساذج خفيف الظل الذي يعيش بشكل وقتي يومي دونما تخطيط أو تنظيم، ولا يرى مشاحة في أن يعتمد الحيلة كلما عدم الوسيلة.

عبارة البرازان تبدو اليوم أصدق من ذي قبل فالبرازيل وعالمنا العربي يتشابهان وكأنما هما خلية واحدة انقسمت في قارات متباعدة، فاختلفتا في المظهر فقط وليس الجوهر، تجمعهما عوامل كثيرة مشتركة من أهمها المرونة السياسية التي تقتضي تسيير الأمور، وتمشية الحال كلما اقتضى لذلك المجال. وتبدو البرازيل دولة وفية للعالم الثالث، و ترفض تماما، كما العالم العربي، الخروج منه إلى العوالم الأرقى على الرغم من أن العالم الأول حاضر فيها. والحضور العربي في البرازيل مشهود ومقبول، ولولا اللغة لخال المرء نفسه في بعض أجزاء البرازيل في لبنان، أو مصر.

وقريبا ستستضيف البرازيل كأس العالم في لعبة هي الأشهر بها، وهي كرة القدم حيث يشارك العرب البرازيليين الهوس بها. وستضيفها في أشهر مدنها وأكثرها صخبا: مدينة ريو دي جينيرو، وتعني بالبرتغالية “نهر يناير”، فكلمة “ريو”، تعني نهر، وكلة “جينيرو” تعني يناير. و ريو على عكس ما يبدو اسم مذكر وليس مؤنثا، ويقال إن الرحالة الذي اكتشفها، اكتشفها في شهر يناير، وكان عجلاً، وقد خال المحيط نهراَ فسمى المدينة نهر يناير، ولم يكترث المجمع اللغوي البرتغالي فيما بعد لتعديل هذ الاسم الأعوج لمدينة من أجمل مدن العالم قاطبة.

ويبدو أن كثيرا من البرازيلين غير سعيدين باستضافة بلادهم لكأس العالم رغم ولعهم بكرة القدم لأنهم يرون أن المستفيد الوحيد منها هم السياسيون النافذون فقط الذي اتخذوا مشاريع مرافق الدورة وسيلة لسرقة الخزينة العامة، فهم، حسب البرازيلين، المستفيدون الوحيدون، أما بقية الشعب فنمهم المتضرر أو على الأقل غير المستفيد.

والجماعة لديهم ثقافة فساد عالية، ويكثر بينهم مقاولو الباطن، ويتداول الناس في الصحف البرازيلية اتهامات لبعض المسؤولين باختزال كراسي الملاعب للنصف، فملاعب حسبت مقاعدها بما يزيد عن مئة وعشرين ألف في الأوراق الرسمية نفذ منها نصفه فقط. وفي البرازيل لا تستغرب أن تجد في المرافق الحكومية مواصفات خنفشارية، أفياشا لا تعمل، برادات ماء شرب لا تعمل، مراحيض تهرب، يعني على طريقة العرب مش حالك! وكانت في ريو مظاهرات ضد زيارة بيل كلنتون، وضد الدورة الأولمبية، فالبرازيليون يطالبون بطرد الشركات الأجنبية في البرازيل بحجة أن مصائبهم جميعها تأتي من تنفيذ الشركات الأجنبية، كما يقال، بمواصفات عالمية.

ويردد البرازيليون ذكر تجربة جنوب أفريقيا في كأس العالم والتي يرونها غير ناجعة ولا مفيدة، ويرون أنفسهم من حيث التركيبة السياسية والأوضاع الاجتماعية أقرب شبها بها، ولذلك ستكون البرازيل خاسرة اقتصاديا من الدورة مثل جنوب أفريقيا. كما يوجد تفرقة قوية في البرازيل ولكنها ليست عرقية فحسب بل اقتصادية، فالبرازيل من أغنى بلاد العالم في الموارد الطبيعية، ومع ذلك فنسبة كبيرة من الشعب تعيش فقرا مدقعا، تجاورها فئة أخرى باذخة الترف. وتتجاور المدن الشاطئية الحديثة والجميلة في البرازيل مع مدن الصفيح المسماة “الفافيلا” وهي تجمعات كبيرة من الأحياء الفقيرة المبنية من الصفيح على سفوح الجبال، وبها شوارع ضيقة أشبه بالمتاهات يخشى حتى البوليس دخولها، ولذا تحكمها القوانين الخاصة بها التي هي أشبه بقوانين الغاب. ويوجد في ريو وحدها ستمائة مدينة صفيح. ويتهم البرازيليون حكومتهم بطرد سكان الأحياء الفقيرة القريبة من التجمعات والملاعب الأولمبية دون تقديم مساكن بديلة لهم، وهم يرون أن الفقراء أولى بالثلاثين مليار دولار التي ستصرفها حكومتهم على استضافة كأس العالم، فمعظم أحياء الفقيرة بلا تعليم، أو صحة، أو مرافق حديثة.

والعجيب أنه ضربت ريو عاصفة مطرية فتسددت الطرق بالمستنقعات، وامتلأت الأنفاق بالمياه، وتوقف السير في الطرق، فعطلت المدارس، وعاد العاملون إلى بيوتهم مبكرا تحسبا لمزيد من الأمطار وخوفا من انغلاق الطرق. فالبنية التحتية في بعض المدن البرازيلية، وفي بعض أحياء المدن الكبرى مثل ريو بنية تحتية عربية. بينما في أحياء أخرى تجد بنى تحتية أرقى من أوربا. وهذا وضع مألوف في بعض الدول العربية.

والبرازيليون شعب متدين مؤمن يحافظ على التمسك بأصغر الطقوس الدينية، ولكنهم لا يجدون تناقضاً في أن يتسامحوا كثيرا في كثير من الأمور الكبيرة التي قد تغضب المسيح. والبرازيليون، كالعرب في انسجامهم مع تناقضاتهم بكل سهولة ويسر، وهم أيضا منطقيون حتى النخاع، وبهم من شعوب الأرض قاطبة، أوربيون، أمريكيون، يابانيون، عرب، هنود الخ. كل يعيش حسب أسلوبه ومستواه، ومهما قيل عن التسامح في البرازيل فهم مجموعة بلدان في بلد واحد، وهم يؤمنون بعدم اختلاط الشعوب فشمالهم أسود وجنوبهم أبيض، ولكل له تراثه وعاداته وتقاليده وتواصله مع بلدان جذوره وأصوله.

وتتضح قمة المنافسة المناطقية في احتفالات السامبا، حيث تُبرز كرنفالات فبراير في البرازيل والتي من أشهرها كرنفال ريودي جينيرو مدى البذخ والتبذير على الاستعداد للكرنفال باستعراضات، وأزياء، وعربات ورقصات تكلف مبالغ طائلة، وهناك تنافس غريب بين المناطق في الاحتفال بالكرنفال حيث تظهر كل ولاية مزايين إبداعاتها، وتصمم كل ولاية الأزياء والرقصات الخاصة بها، وهناك من يرى أن هذه المهرجانات هي فرصة لتغطية بعض الأنشطة غير القانونية كغسيل الأمول وغير ذلك من الأمور.

الشيء الوحيد المختلف في البرازيل عن العالم العربي هو انعدام تملك الشواطئ، فهي متاحة للجميع ولا يجوز حجزها أو البناء عليها، وربما هذا هو ما خدم السياحة فيها فالبناء يكون على بعد مئة متر من الشاطئ، بينما يختلط الشعب بكل فئاته، وأطيافه بشكل ديمقراطي على الشواطئ ولكن ليس حولها فالمباني الجميلة المحيطة بالشواطئ كادت تكون حكرا على البيض الموسرين، و الشواطئ هي الساحة الديمقراطية الحقيقية في البرازيل. ولا شك أن هذا البلد الجميل، ذا الطبيعة الخلابة، والأعراق المختلطة يعد من أجمل أصقاع الأرض، ولكن نتيجة لتركيبته وطبيعة أهله وسماحتهم تعتقد أن من اكتشفهم لا بد وأنه كان عربيا، أو من أصل عربي، وإلا لكان هذا لبلد تحول لبلد أوربي بالكامل، وصار اليوم جزءا من العالم الأول لا الثاني أو الثالث.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب