Thursday 23/01/2014 Issue 15092 الخميس 22 ربيع الأول 1435 العدد
23-01-2014

السدرة...!

إلى: عبدالرحمن العجلان ومحمود خيري رحمهما الله.

يلهو في فناء المنزل بركل الكرة، بينما والده يعتني بحديقته. يختلس النظر وهو يجري خلف الكرة، يبدي دهشة إزاء اعتناء والده بشجرة معينة، يحن عليها وهو يهذب أطرافها الميتة!

ينادي عليه. يضم الكرة إلى صدره، ثم يجلس في منتصف الحديقة.

يسأله وهو يشير إلى الشجرة: هل تعرفها؟ يشاغب الطفل والده: (وهي في غيرها.. أيه.السدرة.. يبه؟) يجذبه والده بشدة ليجلس على الأرض حتى يرى الشجرة من أسفلها.

هاله منظر الأغصان وهي تتمايل لذةً بمداعبة نسمات الهواء لأغصانها الصغيرة. يقطف والده ورقة صغيرة من الشجرة. يزيل ما علق عليها من الشوائب، ثم يلوكها. يلتفت إلى طفله: هذه شجرة نحبها وتحبنا منذ مئات السنين. تباركت ديارنا باسمها. ثمرها طيب المذاق. هي في مثل عمرك. وعندما تبلغ مبلغ الرجال سترى كم الدنيا زاهية بوجودها؟ التفت الطفل إلى الحديقة وأشار إلى النخل: لكنك لم تزرع إلا سدرة واحدة في كل محيط هذا النخل؟ ابتسم والده، ثم أخذ كرته ورماها في الفناء: تذكّر دائماً...

سدرة واحدة تكفي!

* * * * *

في الطفولة المبكرة، يميل أي طفل إلى اختيار صديقه بمعيار التنافس لا التجاذب! كنت أرى في عبدالرحمن طفلا مغامرا، يجاري عنادي، وتطلعي إلى تحدي الأشياء المحيطة بنا! لم نكن نفضل لعبة كرة القدم، لأنها لعبة جماعية، وتفتقد إلى الجرأة واختبار حدود القدرات لشخصياتنا. اختيارنا استقر على (السيكل). تبدو لعبة بسيطة، لكننا نمارسها بتهور لذيذ. تعرضنا إلى سقطات كثيرة تركت آثارها على أجسادنا. كان عبدالرحمن أكثر جرأة، وابتسامته في التحدي، تكسر حاجز الخوف لدي. كنا نواجه الحياة بطريقتين مختلفتين. كنت أصرخ بصوتي لأعلن للكائنات من حولنا وجودي، أما عبدالرحمن فقد كان يتهادى في صمته، ليترك للكانئات رؤية شجاعته لا صوته!

لم يكن متاحاً لنا أكثر من طفولة واحدة. تفرقنا بعد أن أصبحت أصواتنا تشي برجولتنا، وشواربنا تنمو على استحياء. كنا أولاد الجيران، لكننا نتقابل بخجل بعد تغير شخصياتنا القديمة. كنت أكثر هدوءاً، وأقل صخباً. اختار عبدالرحمن صمته وشجاعته. واجه الموت مرة واحدة إذ تعرض لحادث مروري. زرته في منزل والده، وإذ بجسده النحيل مغطى بالجبس. لم أرَ سوى وجهه، وذات الابتسامة تعلن أن للعمر بقية.

بعد سنوات، قرأت نعيه في الصحف. غادر الدنيا ميتا من العطش في رحلة برية لوحده، بعد أن تعطلت به سيارته. الشاب الذي لم يملك سوى صمته وشجاعته، مات وغيره يحلم بأن يمتلك نصف شجاعته.

* * * * *

يقف مع والده بجانب السدرة.

يستند بيده على جذعها: اليوم أصبح عُمرينا سبعة عشر عاما!

يوزع الأب نظره بين السدرة وبين ابنه.

يتنهد: مضى العمر سريعا، كأنها البارحة. زرعت السدرة يوم ولادتك. لم أنتبه لشبابك وبهائها إلا الآن. يأخذ بيد ابنه، ويجلسان في مكان قصي من فناء المنزل. لا تفارق السدرة ناظريه، وبعد برهة من الزمن: كن يا بني مثل السدرة. تنمو لوحدها، ولا تحتاج إلى من يساعدها. تمتد بأغصانها للسماء، ولا أحد يلاحظ ذلك إلا من يبهره الجمال!

يقطع حديثه أصوات جلبه أطفال خلف السور، والسدرة تهتز من رمي أغصانها بأحذية الأطفال وحجاراتهم.

يسابق الابن أباه إلى الشارع، وإذ يصرخ بالأطفال بالابتعاد عن السدرة، ينهاه أبوه عن ذلك. يدعو الأطفال إلى التقاط ثمرات (العبري) المتساقطة على الشارع. يغادر الأطفال حاملين غنيمتهم من العبري.

يلتفت الأب إلى ابنه: السدرة تهب ثمراتها حتى لمن يقذفها بالحجارة.

ثم يغادره وهو يتمتم: سبحان الله.. سبحان الله.

* * * * *

التقيته أول مرة بمكتبه في الصحيفة، إذ كان يعمل في قسم الأرشيف. قصير القامة، ذو لحية كثيفة تلونها شعرات بيضاء. يحتفظ بابتسامته مع كل من يلقاه. في شبابي المبكر، دلفت إلى مكتبه، أبحث عن صور شخصيات. كنت أدخل بنفس سرعة خروجي وبينهما ارتباكات المتعجل. استوقفني: أنت عجل.. ترفق بنفسك.

قلت له وأنا أعدو مسرعا: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

اسمع خلفي ضحكاته المكتومة: سيقطعك.. ولن يحدث شيء!

قابلته مرة أخرى.

لكنه لم يدعني أفلت من يديه. نبهني إلى السوداوية التي تظهر في كتاباتي. أظهر ابتسامة حانية: أنت الآن مثل الوردة المبهجة. تبرز مفاتنها أمام الشمس، ويتراقص النحل حولها. سيأتي الوقت التي تذبل فيه، ولن تشعر بمباهج الحياة.

صرت بعد ذلك اقتطع من وقت العمل، لأكون قريباً منه أكثر.

عشرون عاما مرت، ولم أره يوماً غاضباً. أدركت أنه يلوذ بصمته أو يقرأ القرآن، إذا باغتته لحظات الغضب.

قبل عام، كنت أراه متعبا على الدوام، ولم يخفي ابتسامته. سألته عن أحواله، لاذ بصمته، ثم أخبرني عن مشروعه الصغير، الذي ينوي إقامته في بلدته الهادئة بمصر. كان يحلم بتدريس الأطفال علوم القرآن.

تشاغلت عنه في أمور الحياة، ثم افتقدته، فقيل إنه غادر نهائيا، وعاد إلى بلده.

كتمت غضبي، إذ كيف يغادر دون أن يودعني؟

قرأت بعد أشهر قليلة نعيه في الصحيفة. بكيته. تناولت الهاتف. اتصلت بصديقه الذي أكد الخبر. كان يعاني من سرطان الكبد لسنوات طوال. كنت الوحيد الذي أخفى مرضه عني. يا لغبائي كيف خدعتني تلك الابتسامة عن رؤية الألم؟

* * * * *

بعد وفاة والده، انتقلت العائلة إلى بيت آخر. كان عمره يقترب من الثلاثين بخطى سريعة. توقف أمام السدرة.

انتبه إلى مفاتنها. كيف تجدد شبابها، فيما الشعيرات البيضاء تضع علاماتها في فروة رأسه؟ احتضن السدرة كأنها أخته. وبكى طويلاً. تذكر أباه، وطفولته الغضة، والعبري المتساقط لحظات المطر الغزير. هل يفيد البكاء الآن؟

عاد إليها بعد فراق دام العام.

وإذ يقترب من المنزل، شاهد أن السدرة لم يعد لها وجود أعلى السور. طرق الباب. رحب به صاحب المنزل الجديد، وحاول أن يضيفه، لكنه امتنع من هول المفاجأة. سأله سؤال المشفق عن السدرة. أجابه بشعور المتخلص من مصيبة: (يا رجل.. ارتحنا من غثاها ووساختها على الحوش؟) يكتم الشتيمة في نفسه. يغادره، دون أن يتذكر ما الذي حدث بعد ذلك؟

أعوام قليلة مضت. يرزق بابنه الأول. يهبه اسم أبيه. ويهديه في ميلاده الأول شجرة سدرة، تزين رصيف المنزل الجديد، حتى يراها من في قلبه إحساس بالجمال. لم ينس أن يعيد لابنه في ميلاده الخامس مقولة أبيه: هذه شجرة تحبنا.. ونحبها!

Tmadi777@hotmail.com

almadi_turki@

مقالات أخرى للكاتب