Tuesday 08/07/2014 Issue 15258 الثلاثاء 10 رمضان 1435 العدد
08-07-2014

الطب والإنسانية

ما من مهنة إلا ولها دهاليزها التي لا يعرفها إلا من جال وصال فيها، ولها أسرارها التي لا يفك شفرتها إلا ابن بجدتها، وعلى خلاف ما يتوهم الكثير منا، فالطب ليس استثناءً رغم أهميته التي توصله إلى ما يلامس حد القداسة لدينا. فهو مهم لأهم أمر من أمور حياتنا ألا وهو صحتنا، ولكن الطب كمهنة مهم لممارسيه لأسباب أخرى بعض نبيل وبعضها نبيل، على رأي إخواننا المصريين.

الفرق بين الشاب طالب متعلم، والشاب طبيب ممارس مرحلة دراسية معينة ترى بعض الشعوب أنها صعبة دراسيا، وترى شعوب أخرى أن دراستها مكلفة مالياً، وترى شعوب ثالثة لا هذا ولا ذاك، بل تراها مهنة كسائر المهن. وترى بعض الدول وخاصة أمريكا وكندا، أن الطب مهنة الحياة السعيدة، والسيارات الفارهة وما تأتي به السيارات من مصادفات تاريخية. ودول أخرى منها دول أوروبية، وأمريكية لاتينية ترى ممارسة الطب واجبا إنسانيا -أيضا- وليست مهنة بشرية فقط، واجب يلتزم بموجبه الإنسان تجاه أخيه الإنسان بأمور أخلاقية عديدةن ولذا فهم يشددون على تعليم أخلاق الطب. ولذا ترى كثيرا من الأطباء، ومن واقع الإحساس بالواجب الإنساني، يجوبون العالم لمعالجة المستضعفين فيه في أحيان كثيرة بلا مقابل، بينما يستغل زملاء لهم الحاجات ذاتها لأمور استثمارية، وينظرون للطب كاستثمار تجاري لا واجب إنساني.

فللطب سياق حضاري اجتماعي تشكله نظرة المجتمع لهذه المهنة وعوامل اجتماعية أخرى، ويتغير هذا السياق بشكل عمودي وأفقي في تاريخ الأمم، أو بلغة الطب بشكل «فيلوجيني» و»انتوجيني»، يؤثر هذا السياق على ممارسة وأخلاقها. ولو نظرنا لمجتمعنا في المملكة لأمكننا ملاحظة تطور نظرتنا للطب، ونظرة الطب لنا خلال العقود الأربعة الفارطة، ولاحظنا أيضا تأثير ما يسمى بالخصخصة والتحولات في النظرة للمال اجتماعيا على ممارسة الطب لدينا، وهذا الأمر يستحق دراسة فعلية جادة نقيم بها المسيرة الصحية لدينا إذا ما أردنا تطويرها وتحسينها في المستقبل.

لكن الغريب أن بعض الأطباء، ونؤكد على التبعيض هنا، يتصرف وكأن صحائف الطب طويت في اليوم الذي تخرج فيه، بحيث يعتبر نفسه فوق المساءلة وفوق جميع الاعتبارات الأخرى التي تطبق على بقية خلق الله الذين يكدحون ليعيشوا. وهناك بعض آخر، ونؤكد على «بعض» أيضًا، يرى يوم تخرجه في مجال الطب يوم بدء خدمة البشر المستضعفة من حوله، ويرى السعادة الحقيقة في تخليصهم من آلامهم واستعادتهم، والكثير يراوح هنا وهناك. والطبيب عندما يعالج زميله يتعامل معه بحذر وبطريقة مختلفة عن تعامله مع غير الطبيب الذي عادة ما يفترض فيه الجهل. وما أن أصبح الاستطباب قطاعا تجاريا، وأصبحت له مؤسساته الخاصة مستشفيات، مؤسسات صناعات الخ، وتحول لقطاع اقتصادي كبير، ظهرت لدينا طبقة يمكن تسميتها بالميدكوقراط، على وزن تيكنوقراط، لها إنجازاتها ولها فسادها أيضا الذي يدور حول التجهيزات والمواصفات الخ.. أي كما يقال اقتصادياً بنية «الأب ستريم». أما الفساد الذي يمارسه البعض على المريض مباشرة، فيمكن تسميته «بالداون ستريم»، مثل عدم تواجد طبيب ما في عيادته الحكومية، ووصفه لتحاليل وأدوية لمريضه فائضة عن حاجة الاستطباب في المؤسسة الخاصة التي يعمل بها إضافة لعمله، أو ممارسته التسويق لشركات الأدوية.

وهذا ليس مقصورا علينا ولكنه موجود في كل مكان ويكثر عادة في المؤسسات الطبية الخاصة التي تركز على جانب الربح من الطب. وهنا سأضرب مثلاً من بريطانيا إحدى الدول الرائدة في الطب، ويوجد بها أفضل نظام رعاية طبية في العالم NHS حتى عهد قريب، ولكن يوجد بها أيضا مؤسسات طبية خاصة تبدأ تشخيص المريض من جيبه أولاً. وقد حصل أن جرب النظامين أحد أقاربي عندما كنت طالبًا في بريطانيا، فقد كان يعاني من روماتيزم عظمية، (astro arthritis)، وباركنسون خفيف حميد، سببا له عدم ارتياح فزارني في بريطانيا للاستجمام والاستطباب، وأحضر معه ملفه من مستشفى خالد الجامعي وبه تشخيص على أعلى مستوى.

حاولت الحصول له على موعد مع طبيب مشهور يدعى ماكماستر، فاعتذر بأنه متخصص في الظهر، وأنه من الأفضل أن نبحث عن متخصص في الركب، فكانت الزيارة الأولى لمستشفى خاص «بو..»، شركة خاصة، وكانت مع طبيب اسمه ك. بروان سبق وعمل بالعسكري في السعودية ومتخصص في كل شيء، وبمجرد دخولنا علينا وإطلاعه على الملف أخذ السيد بروان يتصرف ككمساري أتوبيس يصرف تذاكر، يشخمط على القسائم ويضعها في يدي، فبقينا يوما كاملاً في المستشفى من إشاعة إلى تحليل، إلى تصوير الخ. ثم اقترح تغيير دواء الباركينسون للمريض، واقترح عليه إجراء عمليتين لتثبيت مفاصله للتخلص من الألم، ونصحنا بما أننا من السعودية وهو يحبنا، بالاستعجال بالعملية، لأنه سيذهب قريبا في إجازة. خرجنا ونحن في حيرة من أمرنا ولكني فضلت التريث لأخذ رأي آخر.

نصحني طبيب يمني مرموق في أدنبره بالاتصال بمعهد العظام في الجامعة، ولحسن الحظ رد عليّ صدفة مدير المعهد، نسميه مجازا وليم، الذي اعتذر عن غياب سكرتيرته، وبعد أن علم بعمر قريبي وأنه أجنبي، قال لي حسناً، أحضره وملفه في ساعة الغداء غداً، فحصل ذلك. شاهد البروفيسور أدوية وتقارير بروان وتقارير خالد فضحك كثيراً، ثم علق الإشاعتين بجانب بعضهما وقال لي هل ترى فرق؟ أجبت: لا. فرد ولا أنا. ثم أردف الفرق بين الإشاعتين ثلاثة أسابيع فقط فكيف يمكن أن يحدث فرق؟ ثم سأل هل يشكو قريبك من أي مشكل في معدته أجبته بالنفي، فأردف: ليس من المفترض تغيير الدواء لأنه مناسب للمريض وقد تعوّد عليه. ثم نصح قريبي بعدم العبث بمفاصله وتثبيتها ما دام يستطيع التعايش مع ألمها ولو بمسكن بسيط، لأن تثبيتها سيعيق حركته، وجلوسه، وصلاته. ثم قضى بعض الوقت يسولف مع القريب وأنا أترجم، وعند المغادرة سألته خجلاً عن قيمة الكشفية، فأخذ ورقة وكتب فيها حساب المعهد وقال هذا هو حساب المعهد لو أردتم التبرع، وضحك قائلاً، لست ملزماً ما دمت طالبا! السيدان بروان والسيد وليامز كلاهما طبيب في المجال ذاته، ويمارسان المهنة بأخلاق مختلفة.

عدت للمنزل لأفاجأ برسالة من السيد بروان يطلب فيها مبلغ مئة جنية إضافية، 50 كشفية، وخمسين تقرير، فدهشت لأني سبق ودفعت مبلغاً ضخماً مقابل كشوفاته، وصوره، وتحليلاته الفائضة عن حاجة تشخيصه، فاتصلت بصديقي الطبيب اليمني، فأعطاني رقم الهيئة الطبية المسئولة.

وما أن أدرت قرص التلفون أجابوا قبل أن أنتهي!! لا وزارة، لا لجنة طبية، ولا قضاء، ولا هم يحزنون. شرحت لهم فقالوا لي 50 الكشفية حق له وهي الحد الأعلى هنا. أما التقرير فصوره وأعده له ولا تدفع له شيئا. وبعد يومين اتصل بي الدكتور بروان وهو في حالة هستيريا قائلاً إنه لم يتوقع مني الاتصال بالهيئة، وأنه لو علم بذلك لتنازل عن مبلغ العلاج كاملا!! فقد اتصلوا به على ما يبدو ووبخوه.

وأتذكر هذه الحادثة كلما سمعت عمن تم قصبه في مستشفى خاص بعملية لا يحتاج إليها، حتى أن بعض العمليات أصبحت تلتهب ببكتيريا خطيرة لأن المستشفى ليس لديه متسع من الوقت لتنظيف غرف العمليات.

وأتذكرها أيضا كلما ذهبت لاستلام دواء فوجدت كيسا كبيرا مليئا بالمضادات وغيرها، بنادول، حبوب مص وغيرها من الأمور التي توصف للمريض ولا تعرفها إلا عندما يصل الصيدلي لأن الطبيب يرى أن المريض لا يستحق عناء شرح وصفته له، فأرثي لحال المساكين الذي يبتلعون هذه الأدوية من أجل المال فقط ولا حسيب ولا رقيب وكأنما التأمين الصحي وجد ليملأ معدة المريض بالدواء المبالغ بسعره من صيدلية المستشفى ذاته. هذا وصف تقريبي لما يحصل عندما ينظر للطب من زاوية المادة فقط. ونحمد الله أن كثيرا من أطبائنا وخاصة في المتشفيات الحكومية ملتزمون بأخلاق مهنتهم.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب