29-08-2014

الطائفية وتقسيم الدول العربية

منذ أن غزا الأتراك جزءاً من جزيرة قبرص عام 1974، وفرضوا انفصال قبرص التركية فرضاً على العالم، وألغوا وحدة شمال الجزيرة بجنوبها، والخوف من فكرة تقسيم دول المشرق العربي تراود الجميع، وخاصة كل ما ثارت حرب أهلية باعثها طائفي أو عرقي بين فئات شعب دولة ما.

لبنان أثناء الحرب الأهلية التي ثارت عام 1975 واستمرت قرابة الأربعة عشر عاماً، راود بعض الطائفيين من شعبه، خاصة الموارنة المسيحيين، حلم إنشاء دولة مارونية مسيحية على غرار إسرائيل كجزء من لبنان، وقد عمل زعيم حزب الكتائب آنذاك «بشير الجميل» على تحقيق هذا الحلم، بعد اتصاله بالإسرائيليين، وتشجيعهم ودعمهم لإقامة كيان مسيحي ماروني على غرار الكيان الإسرائيلي. وقد نُشرت حينها وثائق أفصحت عن هذه النوايا، وأثبتت الاتصالات بالإسرائيليين، وأحرجت الموارنة اللبنانيين، وصنفتهم كانفصاليين، إلاّ أنّ أغلبية الموارنة، ناهيك عن بقية الطوائف الأخرى، عارضت ذلك بقوة، ما جعل هذه الدعوة الانفصالية التجزيئية تموت في مهدها.

الآن وبعد الحروب الأهلية الطائفية التي تمخضت عنها الثورات العربية، عادت فكرة التقسيم ليتداولها الناس من جديد، إلاّ أنها لم تتوقف عند الدول التي اشتعلت فيها حروب أهلية، وإنما توسعوا فيها، وضموا إليها حتى الدول المستقرة الآمنة. وعندما تسألهم: كيف تتجزأ دولة تنعم بالاستقرار والتماسك والأمن، لا يجدون إلا (نظرية المؤامرة)، لتُسعفهم، فيؤكدون أنّ أمريكا والغرب يأتمرون بنا لتجزئة هذه الدول، ثم يُحيلونك إلى صحف، وتقارير إعلامية غربية (مفبركة)، لا يسندها إلاّ مجرّد الأوهام.

التجزئة والتقسيم لا يمكن أن تتحقق إلاّ من خلال حرب أهلية طائفية أو عرقية في الغالب، لابد وأن يستمر سعيرها سنوات، تأكل الأخضر واليابس، سيطال الغرب واقتصاديات الغرب من سعيرها حزء لا يستطيعون هم لا نحن تحمله؛ فالذي جزأ السودان مثلاً، وجعله ينقسم إلى سودانين، كان سببه وباعثه (الأسلمة)، التي حاول أن يفرضها شمال السودان المسلم - (الأغلبية) - على جنوبه المسيحي - (الأقلية) - فأنتجت حرباً أهلية بين الأقلية في الجنوب والأغلبية في الشمال، انتهت إلى التجزئة كحل للنزاع الطائفي. سوريا والعراق اللتين تسعيان الآن إلى التقسيم والتشظي كانت الحرب الأهلية (الطائفية) هي معول هدمها وتقسيمها الأول.

بمعنى أنّ الخلافات المذهبية التي تتطور إلى حروب أهلية طائفية هي بمثابة شرط ضرورة لتحقيق التقسيم. لذلك فإنّ من العلمية القول إنّ الثقافة الطائفية، وتكريسها بين أبناء الوطن، وتأجيج نزعاتها، واستيراد جذوتها من نزاعات التاريخ البعيد كما يفعل الطائفيون المتأسلمون، هي الشرارة الأولى للحريق الذي ينتهي في الغالب إلى تقسيم الوطن الواحد إلى أجزاء، وهذا ما تحرص عليه دولتان في المنطقة:

الأولى: إسرائيل لأنها دولة قامت وتكرّست على أساس ديني طائفي، وتسعى إلى تفتيت كل من حولها إلى كيانات طائفية صغيرة، لكي تبرر وجودها.

الثانية: إيران، لأنّ إذكاء البعد الطائفي وتكريسه، تستطيع به أن تخترق الوحدة الوطنية لدول المنطقة، ومن خلال هذا الاختراق، تضمن سيطرتها ونفوذها وتحقيق مصالحها الإقليمية العليا. وفعلاً من خلال إذكاء البعد الطائفي والطائفيين العراقيين، وتغييب البعد الوطني، ها هي ابتلعت سيادة واستقلال العراق العظيم، وحوّلته إلى كويكب صغير يدور في فلكها. ومن خلال الطائفة، سيطرت على لبنان، وصار لصنيعتها (حزب الله) وميليشياته اليد الطولى والكلمة المسموعة في قرارات لبنان السيادية. ومن خلال (الحوثيين)، القبائل الزيدية في اليمن التي تشيّعت مؤخراً، تحاول أن تجعل من اليمن دولة تابعة لها، تسعى لتمهيد نفوذها وسيطرتها في المنطقة.

الطائفية هي أس البلاء، والطائفيون المتأسلمون - سواء من السنّة أو الشيعة - هم جذوة إشعال الفتن، والحروب الأهلية، والتقسيم والتجزئة؛ كما أنها هي الثقب الذي من خلاله يدخل الأجنبي إلى النسيج الوطني، فيُحوّل جزءاً من أبناء الوطن إلى عملاء له، ولا علاقة هنا للأكثرية والأقلية بالموضوع؛ فالوطن هو الذي ينتمي إليه الجميع؛ وعندما يتقدم الانتماء الطائفي، أو المذهبي، على الانتماء الوطني، ويتم (تجذيره)، فقل على اللحمة الوطنية ومعها الوطن برمته السلام؛ وأمامكم التاريخ القريب للسودان فاقرؤوه.

إلى اللقاء.

مقالات أخرى للكاتب