01-10-2014

بمناسبة عيد الأضحى.. القليل يكفي عن الكثير

في عيد الأضحى نحن نفعل الصحيح، ولكن هل كل ما نفعله صحيح؟ إذا اشترى أحدنا خروفاً نجدياً متوسط الحجم ليضحي به في عيد النحر فقد يكلّفه ذلك في المتوسط 1800 ريال (بأسعار العام الماضي!)..

أما إن كان معه في نفس البيت اثنان آخران يرغب كل منهما أيضاً أن يضحي، فستبلغ التكلفة 5400 ريال. ليست هذه هي القاعدة العامة، فالبعض يشتري بسعر أقل أو عدد أقل، والبعض الآخر يشتري بسعر أعلى أو عدد أكبر.. ولكن الجميع يتسابقون للتضحية عن أنفسهم وعن ذويهم المتوفين تقرّباً إلى الله تعالى وطلباً للأجر أو تنفيذاً لوصيّة. ولكن ما الذي سينقص من أجر الأضحية لو قررت تلك العائلة التي اشترت ثلاثة خراف أن يشترك أفرادها في خروف واحد يضحون به عن أنفسهم ومن يشاؤون من ذويهم؟.. أليس هذا أقرب إلى سنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام الذي ضحى بكبشين عن محمد وعن أمة محمد؟.. هم عندئذ سيوفرون تكلفة خروفين هذا العام، وفي الأعوام التالية كذلك.. ولو فعلت مئات الآلاف من العوائل الأخرى التي تماثلهم الشيء نفسه، لأمكن ادّخار مئات الملايين من الريالات.. لكن المواشي - وبخاصة الأغنام - لا تذبح فقط في عيد النحر، بل تذبح الملايين منها طوال العام، إما للاستهلاك اليومي أو للعقيقة أو للضيافة والحفلات (كم حفلة زواج أُقيمت مثلاً لحوالي 145.000زواج - للسعوديين فقط - في عام 1432هـ؟).. ومع أنه لا توجد أرقام رسمية ثابتة، إلا أن التقديرات المختلفة التي ترد في المواقع الإلكترونية لبعض صحفنا اليومية لعام 2013 تكاد تتفق على أن الاستهلاك السنوي - بدون ذبائح الهدي - يبلغ سبعة ملايين رأس، نصفها للأضاحي، وحوالي مليون لعيد الفطر (في أقل تقدير)، ونفترض أن الباقي يذبح للاستهلاك اليومي والضيافة والحفلات وللعقيقة.. التكلفة التقديرية لكل ذلك على المستهلكين لا تقلّ عن سبعة مليارات ريال.. ولو أمكن توفير نصف هذا المبلغ (ثلاثة مليارات ونصف المليار ريال)، فكم سيجني هذا البلد واقتصاده من وراء ذلك من جراء توفير أثمان الأغنام وتكلفة أعلافها، وتوجيه الأموال المُوَفَّرة إلى مُدَّخرات تستثمر في أغراض أخرى منتجة أو حيوية؟.. ولو تركنا الاستهلاك اليومي والعقيقة والأضاحي جانباً وانصرف نظرنا إلى الضيافة والحفلات فإن الناظر يُصاب بالذهول وهو يشاهد سخاء الضيافة الذي تذهب (ضحيّته) مئات الآلاف من الأغنام إسرافاً ومباهاة، حيث تنتهي إلى (مفاطيح) و(بوفيهات) تُعدّ بكميات تفوق بأضعاف مضاعفة حاجة الضيوف الذين أريقت دماء الذبائح من أجلهم.. لا أحد يجادل في أن التقرّب إلى الله بنحر الأضاحي عن أنفسنا وعن ذوينا الأعزاء هو عبادة وسنّة عظيمة، ولكن المطلوب لذلليس الحجم والعدد، بل الإخلاص في النية والعمل.. ولا جدال كذلك في أن الكرم خصلة محمودة وشيمة عربية، ولكن الإسراف في الضيافة والحفلات لا يُعدُّ في الواقع كرماً صرفاً، بل هو نوع من المبالغة التي ورثناها في ثقافتنا الاجتماعية كابراً عن كابر منذ القدم - أي منذ أن كان الشعر ديوان العرب والفخر أكبر أغراضه!.. فليس من الهيّن رفضها بسبب عمق جذورها (كتبت عن ذلك مقالاً في صحيفة الجزيرة بتاريخ 14- 11- 1433هـ تحت عنوان: ظاهرة المبالغات: شحن عاطفي.. أم إرث ثقافي؟)، وكذلك لأن في المبالغة من الناحية النفسية نوعاً من المنافسة وإثبات الذات، كما أن في الأضحية والعقيقة شيئاً من الروحانية التي يريد المرء أن يبذل تجاهها أقصى ما عنده للتعبير عن مشاعره الدينية، حتى لو تجاوز حد استطاعته.. ورب قائل يقول: (لا إسراف في الكرم، فالكرم بطبيعته بذل مع تضحية.. ألم تسمع بكرم حاتم الطائي الذي كان يذبح فرسه عندما يأتيه الضيف وليس عنده ما يكفي من القرى؟).. هذا القول يؤكد أن ما سبق ذكره حول المبالغة هو شيءٌ متأصل في طبعنا وثقافتنا.. فهل يستحيل إخضاع هذا الطبع للمنطق العقلاني الذي يقول: إذا كنا نحقق بالقليل ما نبغيه من الأجر والتقرب إلى الله بالتضحية في عيد النحر، وما نبغيه من إثبات الذات وتقدير المحتفَى بهم، فلماذا نلجأ إلى الكثير من الإسراف؟.. وما هي الشرايين التي من خلالها يُضخُّ هذا المنطق إلى أدمغتنا؟.. ليس هناك - في اعتقادي - أفضل من التوجيه الديني الواضح الصادر من علماء وخطباء أفاضل يبيّنون فيه مساوئ الإسراف في استهلاك الذبائح في المناسبات الدينية والاجتماعية، ثم التوجيه الإعلامي الذي يخاطب الأفهام بمنطق ومصداقية، وأخيراً - وقد يكون الأهمّ عملياً - تقديم القدوة الحسنة بأن يقوم وجهاء وقياديّون ومثقفون بالخطوة الأولى نحو مكافحة الإسراف والمبالغة في استهلاك اللحوم في الأعياد وغيرها من المناسبات. والأصحّ حقيقةً أن لا يتوقف المنطق العقلاني فقط أمام ما يذبح - إسرافاً - في الأعياد، ففي هذه الأعياد إسراف من نوع آخر. ذلك هو إهدار المال في السفر إلى الخارج كلما حلّت إجازة عيد - كأن الإجازة السنوية لا تكفي. والكثيرون منا يفعلون ذلك، لأنهم يجدون في إجازة طويلة - تزيد غالباً عن أسبوع - فرصة ملائمة للسفر لتغيير الجو وتفرج الهمّ.. ولكنهم يفرِّجون أيضاً همَّ البلاد التي يسافرون إليها، بما ينفقونه من مئات الملايينن الدولارات خارج وطنهم.. وربما لو لم تكن الإجازات (العيدية) طويلة لما سافروا، بل ادخروا أموالهم لاستثمارها أو إنفاقها داخل بلدهم بما يساهم في إنعاش اقتصاده.. فهل تنفع الذكرى هنا، أم تنفع إعادة النظر في جدوى إطالة إجازات الأعياد في ضوء ما هو حاصل من إهدار للأموال ولأيام العمل والدراسة؟

وكل عام وأنتم بخير.

مقالات أخرى للكاتب