Culture Magazine Monday  17/09/2007 G Issue 216
فضاءات
الأثنين 5 ,رمضان 1428   العدد  216
 
للوعي حسابات أخرى!
سهام القحطاني

 

 

هل الوعي ناتج أم سبب؟ وهل يختلف التعاطي معه أو تقويمه بناء على مضمون ماهية التحديد؟

لا أسعى بالتأكيد هنا أن أحول مسألة الوعي إلى مشكل، كما أنني أيضا لا أحبذ التعامل مع تلك المسألة من باب تحصيل حاصل، ومعطى بدهي، يستعمر رؤيتنا نحو الأشياء.

هل تفهم من العبارة السابقة أن الوعي ديكتاتور معنوي؟

نعم أحسبه كذلك؛ لأنه هو الذي يحرك عقولنا وسلوكياتنا وألسنتنا، وأحسبه أيضا وثيقة اتفاق جمعي غير مكتوبة، ولكن تنبه، إلى أنني هنا أصف أثر الوعي، ولا أحدد هويته.

وهو صحيح ما طرأ على ذهنك أنني أعادل بين الوعي والعقل الجمعي، ولكنه تعادل غير تام، فهناك فرق بين الوعي والعقل الجمعي من حيث المكتسب الثقافي الذي يُعتبر ميزة للوعي، وهو ما يتيح للوعي خاصية التطوّر والتغيير والتعديل، في حين أن العقل الجمعي يتميز بالثبات، وهو ما يعني إقفال لخاصية التراكم، وهي الخاصية المعينة على التطور والتغيير.

ويشتركان- الوعي والعقل الجمعي - في جسد التجربة أي (الأنا).

وتظل الهوية تابعة للعقل الجمعي، أما الأنا فهي تابعة للوعي.

وتجد صعوبة في تحليل تلك الرباعية (الوعي، العقل الجمعي، الأنا، والهوية)، من خلال الشخصية العربية؛ كونها ناتجاً من فعل معقد، وتراث ممتد في الماضوية، وهو ما يُصعّب عليك تتبع جُذوريّة ذلك الماضي المتسع جغرافيا وتاريخيا واجتماعيا، وهذا ما يجعل الشخصية العربية في مقام التاريخ، بما تعنيه الكلمة من عراقة التجربة واختلاف القراءة وغموض دافع الأثر، وما ينتج عنه من ازدواج وتناقض، وهو أمر بدوره لا يُمكّنك من ضبط أدوات تقويمك للخطاب الذي تعكسه أدبياتها، وهذا لا يُنقص من أصالتها، ولكن بلا شك يُشرّعها كشخصية جدلية.

والحقيقة أن تلك الرباعية معقدة ومتشابكة عندما نستطرد داخل مضامينها، لكننا لن نستوعب الفروق بينها، ما دمنا بعيدين عنها، ولذا لا بد أولا من رحلة شاقة داخل تلك المضامين، ليتسنى لنا ترتيب منطقي للأشياء، أقول منطقي؛ لأن المنطق وإن لم يشترط الصحة، فهو يشترط كحدّ أدنى للاستيعاب توافق الفرضيات التي تظل هي بدورها تخضع لوعي الفرد، بمعنى أن المنطق اصطلاحا هو شخصنة الوعي المثقف، فليس كل منطق هو حقيقة صحيحة؛ لأنه ناتج مُصنع، وليس طبيعيا، وهو ما يُسهل التحكّم في إيجاد وسط مناسب لإجراء تجربة منطقة الوعي (الوعي الثقافي). ويختلف مضمون الوعي الثقافي عن الحكمة، وفقا لعقلنة مضمون الفكرة، وهذا ما يجعل الحكمة تبتعد عن محيط المنطق.

والعقل ذو طبيعة أعلوية، فمحله الرأس، أعلى جزء في الإنسان، وكأن الحكمة التي خصصت له هذا المحل أرادت له أن يتفق المحل مع الوظيفة، أي إدراك وإعقال حقائق الأشياء. والإدراك لا يتم إلا عبر إجادة التمييز بين المختلفات والمتشابهات وتقدير الفوارق بينهما كحاصل القدرة على التقويم الصحيح والحكم العادل على الأشياء في معنوياتها (الرؤى) وفي مادياتها (المواقف) بما تقتضيه المناسبة؛ كونها من روابط بنية التمييز التي يقول بخصوصها ابن عربي: وأعلم أن الله تعالى جعل بين الأشياء مناسبات ليربط العالم بعضه ببعض، ولولا ذلك لم يلتئم ولم يظهر له وجود أصلاً، هذا الترابط هو الذي يمنح الإنسان فُرص التجاذب مع الموجودات والتمييز بين المتشابه والمختلف كممثل مضاد لمبدأ التجاذب من خلال مبدأ التنافر، والتمييز والتقويم ناتجان أعلويان أيضا في مضمونهما، مع مراعاة التوافق مع حدود الإدراك أي مساحة المعقوليات التي تتحرك فوقها كل من خاصيتي التمييز والتقويم.

وقد يكون التجاوز (الإبداع والصوفية) وهو عكس التعقل، أيضا أعلوياً في ناتج مضمونه لكنه لا يراعي التمسك بالحركة فوق مساحة تلك المعقوليات التي تحيط بحدود الإدراك، أليست الشطحات الصوفية ناتجا أعلويا، يتجاوز حدود العقل ليلامس شفافية الروح. أو يتجاوز حدود الإدراك مستهزئا بمساحة المعقوليات، من أجل الركض وراء معرفة الحقيقة، كما ذهبت المعتزلة (إذ خرجوا عن حدّ العقل وطالبوه وهو المحدود بالكشف عن حقيقة اللامحدود) - مفهوم العقل عبدالله العروي، ص132.

وهي في ذاتها مشكلة ناتجة عن صراع الوعي الشخصي مع حدود مساحة المعقوليات التي تحاصر قيمة استعلاء المدرك، لمصلحة حدود المساحة المفروضة، ونتيجة هذا المشكل كما يعبر عنه أبو حامد الغزالي بقوله (فإذا لم يقنع المرء بما يزوده به عقله ويلح في المطالبة بما لا يستطيع ذلك العقل الفردي أن يحققه له، حينذاك ينقلب على العقل ويتحول إلى حكيم فيلسوف أو زنديق باطني أو متصوف إباحي).

وهو بذلك يقدم لنا إحدى مشكلات الوعي الشخصي الفردي مع حدود المعقوليات، وهي مشكلة التمرّد على حاجز الغيب أو العرف المعرفي، ومفهوم الغيب عند الوعي المثقف، أو ما يقوم مقامه العرف المعرفي لا يعني تجاوز الحدّ الإلهي، بل يعني أنسنة ذلك الحدّ لفك شفرة المطلق؛ كونه تحديا مباشرا ومستفزا لكفاءة الوعي، ليجره إلى نوع من التطبيع مع المطلق، باعتبار أنه كلما اقترب المعلوم من المجهول اتسعت قيمة معرفة المطلق، وفي ذات الوقت فقد الاتزان والسيطرة على الفكر والسلوك؛ لأن التطبيع مع المطلق يُلزم الوعي التجرد من أناه، اقتضاء حصول معرفة المطلق، التي تتم خارج الوسط القابل للإجرائية، في فضاء مظلم مفتوح يشبه الغيبوبة؛ لذا فلا نعتبر الثقافة الناتجة عن هذه الغيبوبة هي وعي إجرائي قادر على تطوير رؤى ومواقف الفرد والجماعة، بمعنى أنها لا تدخل ضمن هندسة الوعي؛ لأنها لا تهدف إلى إقامة مشروع جمعي تقدمه عبر تصميم يُعين الفرد والجماعة على إنجاز خطاب حضاري عولمي.

والاتزان والسيطرة على حدود السلوك والفكر خاصيتان يمنحهما العقل لمضمون تلك الأعلوية، في حين أن الاتحاد مع المطلق ولو كان ناتجه أعلويا فهو يفتقد تلك الخاصيتين، التي يفكك بدونهما حدود المعقوليات، وهي من وظائف العقل.

ومع اختلاف التعابير التي قدمها الفلاسفة والمفكرون في ماهية العقل قديما وحديثا، اتفقت المضامين على وظائفه، إذن كل التعاريف التي قُدمت للعقل كانت تقصد وظيفته، كإدراك للمادي والمعنوي وخواصهما، والتمييز بينهما من حيث المحسوس والمجرد، ثم التقويم على أنه تطبيق لتأكيد مهارتي الإدراك والتمييز، ثم تأتي المرحلة الأعلى التي تتجاوز خاصية التقارب التي يبني عليه المُدرِك أدوات تقويمه، إلى مرحلة إعادة توزيع خارطة المدركات بمهاراتها ، وهو ما أسميه (بالوعي الثقافي).

فالوعي الثقافي هو (إعادة توزيع خارطة المدركات المعرفية ومهارات لتمييز والتقويم والاختيار).

والعقل عبارة عن مجموعة من الأنسجة، تتشكل وظائفها بناء على روابط بين المركز والأطراف، خلايا الذاكرة والتذكر وضوابط السلوك، هذه الروابط هي التي يتم من خلالها برمجة الحركة الانفعالية للفرد بواسطة الأجهزة الحسية، وظهورها كتفاعلات تفكيرية ووجدانية.

وبذا فإن صناعة السلوك الإنساني بمستوييه المادي والمعنوي عملية تتم من الداخل للخارج، عبر دائرة كهربائية تعمل بواسطة الذاكرة والتذكر.

ولا شك أن الذاكرة أهم جزء في تلك الدائرة الكهربائية؛ لأنها تضم برنامج التاريخ الشخصي والجمعي للفرد، البرنامج الذي يعتمد عليه الفرد في اقتباس معايير سلوكه، والمقاربة بين معايير الأشياء عندما تختلف عن تلك الموضوعة في البرنامج.

وذلك البرنامج الذي يكوّن ذاكرة الشخص عبارة عن مجموع معلومات ماضوية التي تعتبر جذر ذلك البرنامج، لكن تلك المعلومات لا تُخزن كتقارير، بل إشارات، كل إشارة تحتوي على بُنية قيمية تؤلف فيما بينها نسقا يتحكم في فكر وسلوك الفرد والجماعة وتوجيهما عن طريق الوعي السلفي الذي يهدف إلى حماية جغرافية البُنى النسقية من التغيير من خلال إقفال باب تطور التجربة الإنسانية، وتسير تلك الإشارات بانتظام في جهاز الضبط الذي تملكه الذاكرة ما دام التطبيق والممارسة يندمجان مع تلك البُنى الإشارية، وأي خلل يتعرض له نموذج التطبيق أو سلوك الممارسة، تقوم تلك البُنى الإشارية بإعلان الخطر فتنشط إرادة الرفض، وتُتيح لإرادة النسق المجال للصراع مع خطر الدخيل.

وتأتي المكتسبات الدينية والاجتماعية والثقافية كمرتبة ثانية في برنامج الذاكرة، لكن يجب أن تتفق تلك المكتسبات مع الجذر الأول للبرنامج، هذا الاتفاق هو ما يضمن للفرد العيش السلمي مع ذاكرته، أي المجتمع، وعدم الاتفاق يحوله إلى نموذج شاذ عن ذاكرته، أي المجتمع.

نعم، ما فهمته هو صحيح عزيزي القارئ، فالذاكرة هي التي تنوب عن المجتمع داخل الفرد، وهي نيابة لا يستطيع الفرد مقاومتها أو رفضها.

والوعي جزء من الذاكرة، ونستطيع اعتباره بمثابة جهاز مراقبة لمدى التوافق بين تفاعلات الفرد وبرنامج الذاكرة، وجهاز إنذار عندما يختل ذلك التوافق، وقد يرى البعض أن الوعي يقوم بوظيفة مختلفة عن وظيفتي المراقبة والإنذار، بل ومناقضة لهما، وهي وظيفة التمرد على برنامج الذاكرة ورفضها، والحقيقة أن وجود تلك الوظائف الأربعة للوعي هو وجود ممكن ضمن سلم تطور الوعي الفردي والجمعي، وانتقاله من مرحلة التقليد إلى مرحلة الحداثة، إذن الأمر لا يحمل تناقضا، بل تطورا مرحليا لوعي الفرد والمجتمع، يرتبط عادة بمشروع التغيير الاجتماعي، لكن علينا ألا نتفاءل بمعاهدة سلم بين التغيير وبرنامج الذاكرة؛ لأن الوعي هو عبارة عن بنى نسقية، سيقوم بفعل مقاومة للتغيير؛ كون ذلك التغيير مهددا له، باعتبار أن مشروع التغيير لا بد أن يسعى إلى تعديل أو تجديد البنى النسقية.

والذاكرة جزء من الهوية، بما يعني أن الهوية أشمل من الذاكرة؛ نظرا إلى كثرة مفرداتها وتأكيد خلودها وبقائها، إضافة إلى أن الهوية تحمل صفة السلطة باعتبارها المتحدث الرسمي للبنى النسقية التي تتحكم في فكر وسلوك الجماعة وإرشادهما، عكس الذاكرة، وصفة النوع، أيضا عكس الذاكرة، وإن كان البعض يرمز للهوية عبر الذاكرة؛ لاشتراكهما في ذات البرنامج، لكن المسلّم به هو فردية الذاكرة، وجماعية الهوية، جماعية تعود إلى عوامل الشراكة من دين ولغة وتاريخ وتراث، ومصالح مشتركة. فالهوية بلا شك هي ما تُدخل الفرد منظومة الخصوصية على مستوى التفكير والسلوك والشكل الخارجي، في حين أن الذاكرة تقوم بوظيفة المقاربة والتقويم. والهوية أبسط من الوعي، وإن كان كلاهما بنية شعورية وخبرة معرفية، لكن القدرة على التعديل والإضافة من سمات الوعي لكونه القادر على التطور، وليس استحقاقا للهوية.

وبذا يصبح الوعي سلطة تنفيذية، يُعين على التغير والتغيير، كما أنه قد يصبح في المقابل مأزق التغير والتغيير؛ ما يُفسح المجال للصراع بين وعيين، الوعي السلفي والوعي الثقافي.

- جدة seham_h_a@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة