Culture Magazine Monday  17/09/2007 G Issue 216
فضاءات
الأثنين 5 ,رمضان 1428   العدد  216
 

مساقات
د. عبدالله بن أحمد الفيفي

 

 

والذين يرون أن الكتابة حول قضايا اللغة والفكر ضربٌ من الترف، وأن الأجدى أن نكتب عن قضايا أكثر حيويَّة، تمسُّ حياة الناس، كارتفاع أسعار الرُّزّ مثلاً، بدل انشغالنا بالكتابة حول العاميَّة والفصحى، أولئك الذين يردِّدون بحقّ أو بباطل شعار: أين هموم المواطن العربي اليوميّة مما تكتبون؟ قد لا يدركون أن الحديث في اللغة ليس ترفًا، بل فيه أُمُّ معاركنا المعاصرة؛ فكل إشكاليَّاتنا الحضاريَّة ومشكلاتنا التنمويَّة منظومة واحدة، تنبثق من الحرف واللغة وتصبُّ فيهما، بشكلٍ أو بآخر، فالإنسان هو لغته، فكراً وتربية وإنتاجاً وتنمية، ومواجهة مع الذات والآخر.

لا هويَّة، ولا وحدة، ولا تقدَّم، ولا حتى فهماً قوميّاً أو تفاهماً أُمميّاً، في ظلّ بلابل لغويّة تُفسد العقول فيفسُد الواقع والمجتمع، ليس على مستوى اللغة في ذاتها فحسب، ولكن على مستوى ما تحمله اللغة من معطيات قيميّة وفكريّة كذلك.

ولقد كتبتُ منذ قرابة عشر سنوات أو تزيد، في صحيفة (المسائية) أوّلاً- عبر زاوية (شفق)، بملحق (إبداع)- ثم في صحيفة (الجزيرة)، في ملحقها ومجلّتها الثقافيّة، سلسلة من المقالات حول هموم العربيّة ومصادر ضعفها وهوانها، تحت عناوين مختلفة تعالج شتّى قضايا اللغة، مثل:

(دعوة إلى تجديد الخطّ العربي)، (مصادر الضعف اللغوي: هوان العربيّة على العرب)، (مصادر الضعف اللغوي: عصور الانحطاط)، (تاريخ الجزيرة العربيّة مع العاميّة)، (العاميّات ومصاحف صِفّين)، (جَدِّي الشاعر العاميّ.. وأنا)، (عاميّة البيت والمدرسة)، (تعليم أولادنا بالعاميّات)، (النُّفرة من الفصحى)، (عُقدة مدرِّس اللغة العربيّة)، (مصادر الضعف اللغوي: وسائل الإعلام)، (مصادر الضعف اللغوي: الازدواج اللغوي)، (حالات الازدواج في اللغة)، (تعليمنا.. والحَول الإملائي)، (وحدة الوطن= وحدة اللغة)، (مجمع اللغة العربية السعودي)، (العاميّ والفصيح)، (التفصيح.. والتعميم)، (لغة الفنّ والإعلام)، (الغناء واللغة)، (في الثقافة غير الرسميّة)، (الأطفال يفضّلونها فصحى، أيّها الكبار)، (الحميّة اللَّهجيّة)، (نحو معجم تاريخيّ للغة)، (الأنباط والشعر الشعوبيّ)، ممّا لعلّي أجمعه مستقبلاً في كتاب، إن وُجد الناشر.

وبعد عِقد من السنوات والكتابة يحقُّ لي أن أحتفل بالخيبة المؤزَّرة، فإذا صحَّ أن (لا يأس مع حياة)، فالأصح أن (لا حياة لمن تنادي)، الحال هي الحال، والعرب ما يزالون هم العرب، بل إن الواقع إلى تردّ مطّرد.

ولقد باتت الإشكالية الآن، كما أوضحتها في مساقات سابقة، غير قاصرة على الجانب اللغويّ، على خطورته، وما ينبغي لها أن تبقى كذلك، بل هي اليوم ثقافيّة، لما تنطوي عليه من ترسيخ قِيَم البداوة، واستحياء مظاهر التخلّف وتنميتها، وتمجيدها، في مقابل ازدراء قِيَم الحضارة، أو تهميشها وتسفيهها، مع التشكيك فيها، ورميها بكل الموبقات، حيث لا شِيَم هناك، ولا عادات كريمة، ولا تقاليد اجتماعيّة سامية؛ لا كَرَم، ولا شجاعة، ولا نُبل، ولا أصالة مَحتد، فهذه كلها - كما يحلو لنظرتنا السائدة - حكرٌ على بيئة البوادي أو المجتمعات المنغلقة.

فيما الحواضر- القريبة فضلاً عن البعيدة- وحسب مخيالنا البالي، مرتعٌ للفساد والإفساد! ويأتي ترسيخ تلك القِيَم العمياء والمفاهيم المضلّلة من خلال اللغة والآداب الشعبيّة، وباسم المحافظة، والأصالة، والعراقة، وشِيَم العرب، وتراثهم الشعبي أو الوطني.

حيث باتت مفاهيم (التراث)، و(الشعب)، و(الوطن)، تُختزل في تلك البقايا الباهتة من موروثات قَبَليَّة وإقليميَّة، تعود إلى عصور التخلُّف من تاريخ الأُمّة العربيَّة والإسلاميَّة.

هذا ناهيك عمَّا لا تخلو الحمولة منه من بعث نعراتٍ اجتماعيَّة، لها رصيدها الوافر من ذاكرة التنافر وثارات الأمس غير المأسوف عليه.

وما أنا حول هذه القضايا إلا واحد ممّن تضيع صرخاتهم في وادي العروبة.

لعلي أذكر من جملتهم على سبيل الشاهد ما كتبه الأستاذ الدكتور عبدالسلام المسدي قبل سنين قائلاً، ربما في صحيفة (الرياض):

إن هناك تمويلات ضخمة لتشجيع اللهجات المختلفة، وإحياء المندثر منها، واللعب على وتر الخصوصيَّات، كتكتيكٍ مرحليّ للقضاء على اللغة الأمّ أولاً، ثم تعميم اللغة الكونيّة الأقوى ثانياً. لقد مثّلت اللغات الأجنبية في السابق عدوَّاً أيديولوجيًاً، أمَّا اليوم فقد أصبحت اللهجاتُ المحليَّة هي العدوُّ الموضوعيُّ.

وأزعم أن اللغة العربيّة، كحامل للهويّة وضامنة لها، ما يتهدّدها هو صمت المثقّف على زحف اللهجات الذي يغزو الإبداع الثقافي.

المثقف العربي اليوم بكل أسف ومرارة يتحوَّل إلى متواطئ على اللغة، بقصدٍ وبدون قصد؛ وهو بالتالي متواطئ على الثقافة والهويَّة الثقافيَّة ومتواطئ على ذاته، ويبدأ بنفسه أوَّل مشهدٍ على تراجيديّةٍ انتحاريّة! لقد سكتنا كمثقَّفين على تلهيج الإعلام، فإيَّانا أن نسكت على تلهيج الثقافة، كي لا نرى في ذلك نهايتنا المحتومة. وتحت ستار الحداثة أصبحنا نقرأ قصّة عن النوبة بلهجتها، ومقالاً باللهجة العاميّة المبتذلة الخالية من الجمال.

زَحْف اللهجات هذا يهدِّد اللغة الأمَّ في مقتل. وبدلاً من معالجة الأُمّيّة استسلمنا إلى ما يُرضي العامَّة. ولا أكتمكم أن المثقّف العربي قد يعرف لغة أجنبيَّة ويُتقنها كأهلها، ولا يعرف لغته العربيَّة بالقدر نفسه. وهذا هو المطلوب تماماً في ظلِّ الكونيَّة الثقافيّة المزعومة: أن نتحدث لغة واحدة، وننتمي إلى ثقافة واحدة، هي ثقافة الأقوى بالتأكيد.

ومع حلكة الليل يظل بصيص الفجر أقوى. ها هي مثلاً رسالة قارئ لا أعرفه، بعث إليَّ فيها تحية، يقول:

(تحية مودة ومحبة لك... لقد تابعتُ ما كتبته بين الشعر العامي والفصيح، وكان آخرها يوم الاثنين الماضي في الملحق الثقافي للجزيرة - الاثنين 7 شعبان الماضي.. أحييك كثيراً على شجاعتك وقراءتك العلمية الرصينة لما يحدث في هذا المجال.. وأفيدك بأن أثر برامج (العاميّة) وما تبعها من سلوك اجتماعي خليجي والكتابات المتوالية في هذا المجال منك ومن غيرك كان لها أثر (هام) في عقول الكثيرين وبعضهم قريبون منّي بحكم مجال عملي وعلى الأخص كتاب وشعراء النبط الذين بدؤوا يدركون في الأساس ضعف اللهجة العامّة وقصر أدواتها في التعبير الشعري أو الأدبي الكبير كما هو حال الفصحى..... أعتقد يا أستاذي العزيز أن تفاؤلك مبرر بحضور حتمي للفصحى في المشهد الاجتماعي للجيل القادم على الأقل.. حتى وإن كانت المسألة معقدة بعض الشيء كونها مبنية على تأثير الكثير من العناصر الأخرى غير الشعر حيث تكون مصلحة في استمرار الجهل وإعادة إنتاجه عبر تشجيع ثقافة الصحراء والقبيلة والطائفة... إلخ. ولو ألقيت نظرة على تلفزيون (...) مثلاً لوجدت حتى لوحات المتابعة للبرامج تكتب بالعاميَّة، ومن قبل ترجم التلفزيونُ ذاتُه أفلامَ الكرتون بالعاميَّة (الخليجية) وتم عرضها.. ولا أدري ما هو الجميل في تلك اللهجة حتى تربي الأطفال عليها..؟!

تحياتي يا دكتور لك مرة أخرى.. وأؤكد لك أن هناك الكثيرين من المهتمين والمهتمات والمتابعين بحرص.

عبد العزيز).

هذا صوت نموذج من نماذج على أن الرؤية واضحة لولا العواطف الغلاَّبة. فمن الصعب تجرُّد صاحب الهوى، ومن العسير على المتورِّط في مجال العاميَّة إلاَّ الدفاع عنها بكل ما أوتي من حيلة؛ لأن في ذلك دفاعاً عن نفسه، وإن رأى الحقَّ أبلج. أمَّا صاحب الفِكر والأيديولوجيا فقضيَّته واضحة، ولا يجدي معه حوارٌ أو جدال أو حِجاج.

وحقّاً ما ذَكَره القارئ عبدالعزيز، فقد اتسع الخرق على الراقع، ومنذ حرب الخليج الثانية، والمرء يلحظ انحداراً متوالياً، وتداعيات شتّى في الوطن العربي، لا على المستوى السياسي فحسب وإنما أيضاً، وتبعاً لذلك، على صعيد الثقافة والإعلام والتربية والتعليم.

وفي المساق الآتي تفصيل.

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- الرياض aalfaify@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة