Culture Magazine Monday  17/09/2007 G Issue 216
فضاءات
الأثنين 5 ,رمضان 1428   العدد  216
 

ثرثرة في الشعر والسحر
د. خلدون الشمعة

 

 

قبل سنوات، في مقهى يشغل جزءاً من الرصيف في شارع (فيافينيتو) بروما كنا أربعة.

لم يكن الطقس صقيعياً كما هو الشأن في شتاء أوروبا في ذلك العام. كان الطقس قد بدأ يميل نحو الاعتدال، وكان الوقت قد تجاوز منتصف الليل.

قالت (ماريا) التي تكتب زاوية في صحيفة (التمبو):

(إذا سألت أحدهم هل تستطيع أن تعزف على الكمان؟. فأجابك بقوله: لا أعرف لم يسبق أن حاولت ذلك، ربما أستطيع ذلك، فلا بد أن تضحك عليه بملء شدقيك. أما بالنسبة للكتابة فالناس غالباً ما يقولون: لست أعرف. لم يسبق أن حاولت، كأن المرء عليه أن يحاول فقط حتى يصبح كاتباً).

قال (تاسو) الذي يكتب الشعر:

(سبق أن قرأت كلاماً مشابهاً لكاتب اسمه غولدنفيزر ألف كتاباً عن مقابلاته مع تولستوي. كان تولستوي يعجب كيف أن بعض الناس يظن أن العزف على أبسط آلة موسيقية أشد صعوبة بكثير من كتابة قصة واقعية أو حتى قصيدة جامحة).

قلت: (هذا بالضبط ما يجعل عدد الشعراء العرب أكبر من عدد القراء بكثير. فما دام الشعر ينظر إليه على أساس أنه المعنى أو المضمون وليس طريقة قوله، فإن هذا يجعل الناس كلهم شعراء. لدينا حضارة بأكملها قيل بعضها نظماً وبعضها الآخر شعراً).

قال (تاسو): (المهم أن يفهم الشعر فهماً حسياً لا أن يفهم فهماً منطقياً كما يقول كروتشه. والمهم كما أقول أنا أن يُحَبَّ الشعر كما تُحَبُّ المرأة.. لا أن يفهم).

قال (ألان) الانكليزي الذي يكتب شعراً غنائياً أو شبه غنائي: (المعنى يرتبط بالعقل على نحو ما. لو أن الأمر لم يكن كذلك لكان الشعر الانكليزي في القرن الثامن عشر أفضل مما هو عليه الآن بكثير. تصوروا أن أربعة شعراء إنكليز هم من المجانين: كولنز وكريستوفر سمارت وكاوبر وبليك).

كان بليك أشد هؤلاء موهبة وجنوناً. كان هذا المجنون يلح على انه لا يوجد تقدمٌ دون أضداد. فالجذب مثله مثل الدفع. والعقل مثله مثل الجنون. والحب مثله مثل الكراهية.

كل ذلك ضروري للوجود الإنساني. بل إن هذا المجنون لم يتورع في أحد دواوينه عن عقد الزواج بين الجنة والنار فأطلق على أحد دواوينه اسم (زواج السماء والجحيم).

قلت: لديكم مجانينكم ولدينا مجانيننا.

البروفسور آربري ترجم الى الانكليزية شعراً مرثية لشاعر عربي أصابه مس من جنون فأجهز على حبيبته لأنه لم يحتمل أن يشاركه النظر إليها أحد.

هذا الشاعر شبه مجهول، أو فلنقل أنه لا يذكر كثيراً... إنه ديك الجن الحمصي الذي وصفه آربري بقوله انه عطيل يمثل دراما من صنع يديه.

قتل ديك الجن حبيبته واتهم بها اخاه حسب احدى الروايات- ثم قال يرثيها:

(ياطلعة طلع الحِمامُ عليها

وجنى لها ثمر الردى بيديها

رويت من دمها الثرى ولطالما

روى الهوى شفتي من شفتيها

قد بات سيفي في مجال خناقها

ومدامعي تجري على خديها

فوحق نعليها وما وطئ الحصى

شيء أعز عليَّ من نعليها

ما كان قتليها لأني لم أكن

أبكي إذا سقط الغبار عليها

لكن ضننت على العيون بحسنها

وأنفت من نظر الحسود إليها..

أليس هذا الجنون شعراً..؟)

قالت ماريا: (الشعر لعب من طراز رفيع. ها أنت ترى الجنون وقد أصبح شعراً. إذا أردتُ شيئاً آخر غير اللعب فلا بد أن أختار وصفاً آخر له أقل جنوحاً من الجنون).

قال (تاسو): (هذا التحديد يخص نوعاً واحداً من الشعر. لو طبقنا هذا المقياس على الشعر كله لأصبح تعميماً ليس له معنى).

قلت: (الأسطورة الشرقية تروي القصة على نحو آخر. إنها تروي قصة السحر بدلاً من قصة الشعر. بل لعلها ترى ان السحر نفسه ضرب من الشعر.

إنها تروي قصة عدد من السحرة الذين يمتلك كل منهم عدداً لا يحصى من الأغنام.

كان كل ساحر من هؤلاء قد بلغ به البخل مبلغاً جعله يرفض استخدام راعٍ للحراسة أو تشييد سياج يحمي به الأغنام التي كانت تضل الطريق أو تشعر فجأة بالحاجة إلى الفرار إذ تدرك ان الساحر يريد أن يظفر بلحمها.

وهكذا يقوم السحرة بتنويم أغنامهم تنويماً مغناطيسياً ويوحون إليها بأنها خالدة مخلدة، ثم يوحون إليها بأنها عندما تسلخ لا يمكن أن تصاب بأذى.

بل إنهم يؤكدون بشتى السبل أن السلخ، على العكس من ذلك، مفيدٌ لها وملذ. ويوحون إليها بأنهم يعشقون قطعانهم عشقاً يجعلهم على استعداد للتضحية من أجلها بكل ما يمتلكون من مال. ويوحون إليها بأنه إذا كانت هناك كارثة ستحل بها فإنها لن تحل بها في تلك اللحظة أو اللحظة التي تليها أو في اليوم الذي يعقبها.

ولهذا فلا حاجة بها لأن تشعر بالقلق.

وأخيراً يوحي كل ساحر إلى قطيعه بأنه ليس قطيعاً. بل إنه يوحي إلى بعض الأغنام بأنها ثعابين ونسور، وإلى بعضها الآخر بأنها سحرة تتقن فن السحر. وبذلك يكف الساحر عن القلق بشأن القطيع: لا يفر من القطيع كبش واحد ولا تتحرك شاة واحدة بل تتسابق فيما بينها في اللحظة التي يطلب فيها السحرة لحمها وجلدها.

أليس هذا السحر ضرباً من الشعر..؟).

قال (ألان) الشاعر الإنكليزي مستهزئاً: (حكاية مدهشة، ولكن السحر فيها ليس سحراً. كما انه ليس شعراً بأي معنى من المعاني.

الساحر هنا ليس شاعراً، بل حاكمٌ متسلط يمارس عملية غسل دماغ عصرية).

قلت: (لا أعتقد ذلك).

قال (ألان): (ولمَ لا..؟).

قلت: (إذا أردت أن تغسل شيئاً، فالشرط الأول لذلك أن يكون موجوداً حتى يمكن غسله. أليس كذلك ياعزيزي؟..).

- لندن


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة