Culture Magazine Monday  17/09/2007 G Issue 216
نصوص
الأثنين 5 ,رمضان 1428   العدد  216
 
قصة قصيرة
الطريق
وفاء العمير

 

 

برقت ورعدت، كانت السماء غاضبة، المطر يطرق الشوارع والبيوت، والغيم مثل رداء تضعه السماء على كتفيها.

وقتها كان الرجل يلملم كل حاجياته، في حقيبة جلدية كبيرة.

(الليلة سيكون كل شيء قد انتهى) تمتم بينه وبين نفسه: (لم أعد أطيق ما أنا عليه، صار الوضع كما لو أن قارورة ملح كبيرة دلقت بالكامل في الطعام).

زعقت السماء مرة أخرى. ارتجف ثم جلس على طرف السرير. أصغى؛ فلم يسمع إلا صوت المطر في الخارج يضرب البلاط بقوة. كانت أنوار المنزل الأمامية تسقط على الأشجار المبتلة، والهواء يتلاعب بالأغصان.

ظل ينظر إليها. ما أشبه حاله بحال تلك الأشجار؟! يقولون له: اذهب يميناً يذهب، شمالاً يذهب. هل هو إمعة؟ أليس له رأي في حياته؟ وقراراته أتصاغ عنه؟ حتى بعد أن تعدى الثلاثين من عمره؟ منذ أكثر من عشر سنوات كان سيصير طبيباً، وقدم أوراقه للدراسة في كلية الطب؛ فوقف أبوه في وجهه، وأجبره على سحب أوراقه، وبدل أن يصبح طبيباً، ها هو يقف في محل لبيع الأقمشة.

(أنت تاجر ابن تاجر. هذا ما أنت عليه) وصدق أنه تاجر، وأنه لا صلة تربطه بالطب، لكنه كان يشعر كأنه وُضع في جلد ليس جلده.

وحين أحب بنت الجيران، وأراد الزواج منها، وقفت أمه في وجهه، وقالت له: (لا تصلح لك).

لبس البشت، وتبخر؛ ليخطبوا له بنت خالته، وأمه لا تكاد الدنيا تسعها من الفرحة، وهو لا يدري، ربما كان مبتهجاً، وربما كان محتاراً قليلاً في ذلك الشعور الذي يخمش جدار صدره، ويجرحه، ويزداد شعوره بعمق الجرح كلما مرت السنون، وتعمقت الهوة بينه وبين زوجته؛ فطلقها. احتضنت أبناءها الثلاثة، وعادت إلى بيت أهلها.

هل كان راغباً في تطليقها؟ من كان ليكتشف ما كان يفكر فيه؟ فأفكاره مثل مراوح تدور بسرعة في رأسه، وتظل تدور دون أن تتوقف. مراوح ريشها سكاكين حادة، تقطع، ويجري النزف إلى قلبه.

اليوم نهاراً كانت القشة التي قصمت ظهر البعير. كان مع أصدقائه يتسلون بلعب الورق وبالحديث حينما اشتعلت بينهم حرب صغيرة.

(أنت مقودك زوجتك) أحدهم قال للآخر..

فردّ الآخر بسرعة: (وأنت ابن أمك).

ولما ضحك هو، قال له: (أتضحك يا إمعة؟).

جمد في مكانه مذهولاً، ثم انتفض كمن لدغته أفعى، وهجم عليه يريد أن يأخذ بخناقه، تدخلوا وخلصوه من يده.

وهو يقود سيارته، في الشوارع المكتظة، كان يفكر في هذه الكلمة، ويتساءل:

(أأنا حقاً إمعة؟ وكيف صرت هكذا؟ من المسؤول عن ذلك؟).

هدأت الأجواء.. كان حزيناً، وغريباً عن نفسه وعمن حوله، حتى غرفته كأن لها هيئة مختلفة عما كانت عليه. المنزل صامت، وخال.

إلى أين سيذهب بهذه الحقيبة؟ أعاد ثيابه إلى مكانها في الدولاب، وهو يسخر من نفسه: إذا غادرت هذا المنزل فهل سأستطيع مغادرة نفسي؟

هل سأغير من حالي برحيلي عنهم؟ هل سيكون الطريق نفسه أم سأعثر على طريق آخر يصلني بي؟

هل المشكلة: هم، أم أنا؟ وهل فات الأوان علي، أم ما زال في الوقت متسع؟

كانت الأشجار قد سكنت، ونور المصابيح يحيطها من كل اتجاه.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة