Culture Magazine Thursday  08/11/2012 G Issue 384
فضاءات
الخميس 23 ,ذو الحجة 1433   العدد  384
 
التركي وثنائية الوفاق والشقاق
«فوضى الثوابت وخدعة الفرزنة»
سهام القحطاني

 

عند ما استمعت إلى المحاضرة التي ألقاها الدكتور إبراهيم التركي في مجلس العوهلي والتي عنون لها "التنوع الثقافي وفاق أم شقاق؟" لفت انتباهي تركيزه على مسألتين؛ وقبل أن أذكر تلك المسألتين توقفت عند عنوان المحاضرة "التنوع الثقافي وفاق أم شقاق؟" الذي علّق عليه في المبتدأ مقدم المحاضرة قائلا لو أنه مكان الدكتور التركي لاختار "الاختلاف الثقافي" بدلا من "التنوع الثقافي".

والحقيقة إنني أتفق مع التركي في اختياره العنوان "التنوع الثقافي" بدلا من "الاختلاف الثقافي" لأمرين؛ أولهما: أن مصطلح "الاختلاف الثقافي" يحمل نوعا من "التوّجس" الذي قد يُشير إلى الظن "بالإقصاء والخلاف والحدّية"، في حين أن "مصطلح التنوع الثقافي" أشبه بحمامة السلام يحمل نوعا من الإشارات الإيجابية للمتلقي كالشمول ومشاركة الحوار".

والأمر الثاني هو "غلبة التكرار على أصل المقصد"؛ فمن خلال تجاربنا الثقافية سنجد أن كل حوار يحدث تحت عنوان "الاختلاف الثقافي" ينتهي "بخلاف ثقافي" وكأن عنوان "الاختلاف الثقافي" عنوان غير محايد يفترض نية المقاطعة قبل المصالحة ويعني في الذهنية "تعالوا حتى نختلف" مما يشحذ همة المختلفين بحماس الاختلاف قبل المعرفة، وبذلك فأنا "أبشر بالاختلاف قبل المشاركة".

في حين أن "التنوع الثقافي" عنوان محايد، طاولته تتسع للاختلاف والاتفاق، وغير حدّي، ولا يحمل خلفية تصادمية في الذهن العام خلاف مصطلح "الاختلاف الثقافي".

سيقول البعض إن هذه أمور نفسية ما شأنها وأنا أقول إن "صناعة الاستعداد والقبول" نصف "ثقافة الاختلاف الثقافي".

أما المسألتان اللتان أثارهما التركي في محاضرته؛ فالمسألة الأولى "ثنائية الوفاق والشقاق" أو "الاختلاف والاتفاق" وما تحمله تلك الثانية من جدلية المفاهيم.

والمسألة الثانية وأظنها الأخطر وفي اعتقادي أنها كانت بمثابة صندوق "باندورا" هي "فوضى الثوابت" وقد انعكست أهمية تلك المسألة من خلال مداخلة الجمهور.

وما بين المسألتين يُثير الدكتور التركي من وراء السطور "أزمة غياب ثقافة المفهوم"، التي أظنها كما أعتقدها التركي سبب أزمة غياب "ثقافة الاختلاف الثقافي".

والمسألة الأولى قدمها لها التركي بعدة أسئلة تنكشف من خلالها أزمة ثنائية الوفاق والشقاق. وهي هل الاختلاف الثقافي يساوي الخلاف الديني؟

وفكرة التساوي بين الاختلاف الثقافي والخلاف الديني يدفع الاختلاف الثقافي لمواجهة الثوابت، وإقامة تلك المواجهة أو التفكير فيها في حد ذاته يدخل الاختلاف الثقافي كما يقول التركي في باب "المحذور الشرعي"، و"ديننة الاختلاف الثقافي" تعني تحريم "ثقافة الاختلاف الثقافي"، بحجة أن السلامة في التوافق.

وفي هذا المقام تأتي أسئلة لتركي في مسألة أزمة ثنائية الوفاق والشقاق وهي؛ هل الاختلاف يمنع الاتفاق؟ هل التوافق يعني التوازن؟ وهل إعادة إنتاج المجتمع ذاته يضمن حماية الثوابت؟

ومن خلال تلك الأسئلة يضعنا التركي أمام مفهومين "الاتفاق والتوافق" فهل الاختلاف يمنع الاتفاق؟ وهل التوافق يعني التوازن؟

ويمكن التفريق بين الاتفاق والتوافق كالآتي.

تعتمد فكرة التوافق على إلغاء حتمية الاختلاف من أجل السلم الثقافي للمجتمع وهو ما يعني التشابه الصوري أو التشابه المزيف أو الانتحال ويمكن التعبير عن هذه الحالة "بخدعة فرزنة الأفكار" كمعادل لأفكار الثابت، مع أن الغالب "ليس كل فرزنة للأفكار هي معادل للثابت".

وينتهي تأثير التوافق بمجرد خروج المتوافق من المحيط المخصوص لذلك أسميته "التشابه المزيف"

أما الاتفاق فهو ميل الأغلبية الثقافية في قبول رأي ثقافي مقبول لم يحتويه من منطق معقول، والاتفاق الثقافي ها هنا اختياري لا إجباري، وكون خاصية الاختيار متاحة في حالة الاتفاق الثقافي، فالإجابة على سؤال التركي هل الاختلاف يمنع الاتفاق؟، حسبما أعتقد لا يمنع الاختلاف وجود الاتفاق، كما أن الاختلاف لا يقتضي منع الاتفاق؛ لأن حصول الاتفاق في ذاته هو ضمان لظهور المتحول كما هو ضمان لتأطير الثابت.

وفي ضوء المعروف الثابت والمعروف المتحول يتحرك الاتفاق والاختلاف في خطين متوازيين غير متعارضين.

عكس التوافق الثقافي الذي "يُصفّر مساحة المتحول" ليصبح المعروف ثابتا والمجهول أيضا ثابتا أما فيما يتعلق "بالمجهول المعروف" فيتم عبر "حيلة فرزنة الأفكار التي تُحسب على الثوابت" وتلك الفرزنة هي التي تحول المتحول المعروف والمجهول إلى المعروف الثابت.

ويدخل ضمن هذه العملية "إعادة نسخنة المجتمع" وكما يقول التركي "تأميم العقل الجمعي".

يعتقد أصحاب الدعوة إلى التوافق الثقافي أنهم يسهمون في تحقيق التوازن الثقافي، وهو ما يفتح الذهن على سؤال أين تكمن القيمة في "التوازن أم الاختلاف"؟

يرى التركي أن التوازن الذي يسعى إليه التوافق يهدف إلى إعادة إنتاج المجتمع أو "إعادة نسخنة المجتمع" وهذه النسخنة هي التي تسهم في إبراز معضلات المجتمع.

وهذا أمر حتمي لأنه يكرر التجربة الخاطئة والمنقوصة المتخلفة مما يجعل المجتمع في "عداد الموتي" أو "فاقدي الحيوية".

أما المسألة الثانية والأخطر فهي مسألة "الثوابت" وخطورة هذه المسألة تكمن في ثلاثة عناصر هي "المفهوم، والمساحة والحد" ولا شك أن غياب معيار ومقياس لتلك العناصر بدوره أضر "بثقافة المفهوم". وغيّب الرؤية الصحيحة لمفهوم "الثوابت" "والممكن من مساحتها" و"الممكن من حدها".

إضافة إلى ترك المفهوم تحت "وصاية الأهواء والمصالح الخاصة".

وتحويل "الثوابت" بقصد من "قيمة المفهوم" إلى "دلالة المعنى" هو الذي يشعل أزمة "الخلاف الثقافي" ويُنتج "التطرف الديني"؛ لأن الدلالة بطبيعتها شاملة وقابلة للشخصنة والادخار عكس المفهوم الذي يتصف بالتحديد والمحايدة والخلو من العاطفة وشدة الانفعال.

وخضوع الثوابت "لدلالة المعنى" كدّس محتواها، ولم يوسع كما قد يرى البعض، لأن التكدّس هو الازدحام مع إلغاء للمقياس، في حين أن "التوسع" هو الإضافة مع قوننة المقياس.

ولذلك لا نتعجب كما يقول التركي عند ما نخلط بين المقدس والبشري والدين والفكر الديني والعبادة والعادة؛ باعتبار علاقتي الجزئية والكلية.

وهما علاقتان غالبا ما تُنتجان "تثبيت المتحول". وتثبيت المتحول بدوره إضافة إلى تأثيره في "إعادة نسخنة الذات الاجتماعية" وتأميم العقل الجمعي كما يذهب التركي، فهو أيضا مُوقِف لعجلة النهضة الفكرية ومعوّق لظهور الأفكار الحضارية، كما أنه مُعثّر لتطور الأفكار وتطويرها.

ومن هنا يدخل "الاختلاف الثقافي" باب المحذور والمحّرم وفق علاقة "تثبيت المتحول.

إن الخطيّة في "تثبيت المتحوّل" تؤدي إلى فوضى الثوابت، ومتى ما دخلت الفوضى إلى "مدونة الثوابت" خرج "الصحيح" و"ظل الفاسد"، خلاف ما يعتقده أصحاب "تثبيت المتحول" أن توسيع "مساحة الثوابت وحدودها" ضمان لصحة الدين وحمايته من فتنة الفكر.

في حين أن فوضى الثوابت عبر "فرزنة الأفكار" أو "تثبيت المتحول" تُتيح حجة الشك على جدية الثابت ونفعيته، فالشريعة الحاصلة من تثبيت المتحول قابلة للشك وقبولها للشك يجوّز تعميمها على شرائع حاصل كل ثابت، ففوضى الثوابت ليس دائما في مصلحة من يروّج لها لعدم قدرة المتلقي على التمييز بين الثابت والمتحول، بل قد تنقلب تلك الفوضى عليهم لأننا في زمن المتلقي أقرب إلى الكفر بالثابت من الإيمان بالثابت.

وليس كل فكرة مُفرزنة هي معادل للثابت.

أتفق مع الدكتور التركي أن "حل أزمة الخلاف الثقافي" هو "تقنين الثوابت المُلزمة"؛ لأن أي حكم صحيح يُبنى في ضوئه منطق "المنع والمنح" لا بد أن يعتمد على مقياس ثابت لتلك العناصر، -مفهوم الثابت، ومساحته، وحدّه-.

من تلك المقايسة والمعيارية يُحدد الثابت من المتحوّل ويصنع سلم الخيارات والمتعددات وبالتالي تسير عملية الاختلاف الثقافي أو التنوع الثقافي في وفاق وإثراء.

جدة
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7333 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة