Culture Magazine Thursday  08/11/2012 G Issue 384
فضاءات
الخميس 23 ,ذو الحجة 1433   العدد  384
 
المتكلم في السرد العربي القديم
أ. د. خالد بن محمد الجديع

 

حمل مفهوم الحوارية الذي قدمه ميخائيل باختين بشأن المتكلم مجموعة من المفاتيح التي أغرت من جاء بعده بتطويرها وجعلها أكثر فاعلية حين مقاربة النصوص السردية ودراستها، ويعد ديكرو من أهم النقاد الذين أولوا هذا الأمر عناية كبرى بتفرقته بين الذات المتكلمة (sujet parlant) والقائل (Locuteur) (والمتلفظ (Enonciateur).

ولتطوّر الآليات التي يُنظر من خلالها إلى المتكلم تداعى مجموعة من النقاد لإقامة ندوة حملت اسم (المتكلم في السرد العربي القديم) حاولوا من خلالها تصويب النظر نحو تراثنا السردي انطلاقا من هذه المفاهيم، وقد أشرف على أعمال الندوة محمد الخبو ومحمد نجيب العمامي.

دُعي إلى تناول هذه القضية لفيف من الباحثين الذي أسهموا بشكل فاعل في تقديم رؤى ذات قيمة حول المدونات التي تولوا دراستها. والقارئ لهذه الأعمال يدرك حجم الإضافة العلمية التي تحتوي عليها، فكل متداخل من المشاركين قد نظر إلى هذه الزاوية من خلال الجنس الذي هو مهتم به، فجاءت أحكام تلك الأوراق متدثرة بالخبرة الطويلة مع تلك الأجناس السردية.

استهل محمد القاضي أعمال الندوة بتقديم بحث عالج فيه أقنعة المتكلم في أيام العرب، وقد بدا القاضي وهو يتحاور مع مدونته أشبه بفريق عريق يلعب على أرضه وبين جمهوره، فهو متمكن من أدواته، قد اتشح بتاريخه الطويل في مقاربة الخبر؛ ولذا توصل إلى نتائج مهمة لدى تدبره شرح نقائض جرير والفرزدق لأبي عبيدة، ومن أهم تلك النتائج عدم قدرة المتكلم على التقنع التام نتيجة شفافية القناع الملبوس، فالبصمات واضحة، والصياغة الأدبية فاضحة.

ولعل أهم ما يؤخذ على القاضي في هذا البحث أن العنوان قد تفلَّت من بين يديه، فلم يستطع إحكام السيطرة عليه، حيث بدا فضفاضا يعد بأكثر مما قُدِّم في متن المقال، كان العنوان موسوما ب(أقنعة المتكلم في أدب الأخبار) بينما اقتصر التناول على مدونة واحدة فحسب.

ويتلافى صالح بن رمضان ما وقع فيه القاضي من عمومية العنوان فيجعل مقالته التي عنونها ب(المتكلم في المراسلات السردية القديمة) غير خاصة بمدونة بعينها، فهي تصوب نظرها إلى السرد الرسائلي في تراثنا العربي، لقد كتب رمضان بخبرته ومعايشته لهذا النوع من الترسل فأفصح عما يبدي ذاتية المتكلم من قيم تعبيرية.

وكنت أود منه لو انتقى بعد هذه الأحكام عملا رسائليا ذا طبيعة سردية يجمع كثيرا مما يريد إيصاله تحت عنوانه الذي ارتضاه، محاولا تنزيل رؤاه التي تكونت لديه منذ أكثر من عشرين عاما عايش فيها هذا الجنس من الأدب.

وقد تجنب محمد الخبو الذي يبدو أنه صاحب فكرة إقامة الندوة مشكلة المدونة فجاءت محددة، ومشكلة العنوان فجاء دقيقا، بل إنه ضحَّى بأهمية قصر العنوان في سبيل دقته، حيث يعد عنوانه المقدم من أطول عنوانات تلك الأعمال (مسألة المؤلف في أخبار العشق في قديم أدب العرب) ليخلص من خلال فحصه إلى أن المؤلف ليس جامعا ومنتقيا، بل هو يخضع الخبر لرؤية تنتظم كل الحكايات.

ويتوصل أحمد السماوي في مداخلته التي عنونت ب(المتكلم في خبر جميلة من كتاب الأغاني) إلى أن المتكلم يسير وفق أساليب قارة، وهذه النتيجة - في ظني - من نافلة القول، وهي طبعية؛ ذلك أنه نظر إلى نص واحد ولم يقارنه بأخبار العشاق الأخرى في الكتاب، أو بأخبارهم خارجه، أو بالأخبار بشكل عام على اختلاف موضوعاتها.

وبدا لي أن ورقة نور الدين بنخود لم تنجز من أجل هذه الندوة، وإنما هي انطباعات عامة سريعة يحملها، نثرها على الورق دون تدبر، ويمكن أن تقرأ ذلك منذ الوهلة الأولى لمصافحة العمل، فالعنوان الذي اختاره (الذاتية في بعض أجناس النثر العربي القديم) يشي بتفرق الدم بين القبائل، وكلمة (بعض) تزيد الأمر ضبابية. ولا أستطيع إلا أن أسجل إعجابي ببحث علي عبيد الذي نظر إلى المتكلم من خلال كتاب (التوهم) للمحاسبي متتبعا أشكال حضوره وفق تقنيتي الصمت والكلام، ومتوصلا إلى أن المؤلف كان الأسبق في تشريح النفس من خلال اقتحامه الحدود الغيبية عبر استخدام النادر صيغة للمخاطبة السردية.

وتجيء ورقة حسن لشكر خارج حدود أعمال الندوة التي عنوانها (المتكلم في السرد العربي القديم) فهو يتناول رحلة للعمراوي تنتمي إلى العصر الحديث !!، ولا أدري كيف قبل المشرفان على الندوة وضعها ضمن الكتاب على الرغم من كونها تخرق أبسط شروط المشاركة العلمية فيها، ومع ذلك فقد تمكن لشكر ببراعة تحليلية من التعامل مع زمرة أعوان الكلام (السارد -المتلفظ - المبئر - الذات) رابطا إياها بالمؤلف الأصلي للعمل.

وأحسب أن عبدالله البهلول لم يوفق في اختيار مدونته، فرسالة أخلاق الوزيرين لأبي حيان ليست قائمة على السرد، وما فيها من حكي ليس إلا مكونا ضئيلا، ومن هنا كانت النتيجة التي توصل إليها في مقاربته من قبيل تحصيل الحاصل، حيث رأى « أن المتكلم كائن مزدوج التركيب، منتم في الظاهر إلى التاريخ، مصوغ في حقيقته من فنون الكلام، وأن ما توحي به الرسالة من تعدد ليس سوى خدعة، فالرواة والمتكلمون والمتلفظون لم يقولوا غير قول واحد ولم ينجزوا غير فعل واحد هو ما أراده الكاتب الحقيقي « ص10.

ويحس القارئ لمقالة لطفي زكري (المتكلم وعمل الخرق ومقاصده في كتاب العظمة) بجودة مقدمته النظرية التي صدَّر بها عمله، لكنه يشعر أن النص لم يطاوعه في تفعيل الآليات والمفاهيم التي تحدث عنها.

أما مريم حمزة صاحبة المنجز ذي العنوان (مقامات الهمذاني وسنة الراوي في المدونة السردية عند العرب) فكانت ورقتها محكمة - إلى حد كبير - وناتجة عن تدبر طويل لمادتها العلمية التي اختارتها، بدا ذلك في إمساكها بالمشروع التعاوني الذي يؤديه كل من المؤلف والراوي والبطل، ولو أدركتْ أن كل عنصر من هذه العناصر يتراوح في المقامات التالية للبديع ما بين راو ومروي له لتوصلت إلى نتائج أكثر إبهارا.

وإذا جئنا إلى حاتم السالمي ألفيناه بعيدا عن أجواء المقامة العربية، غير مدرك لتحولاتها السردية على مستوى المتكلم، فقد اختار المقامة الحرزية للبديع وفَصَلها عن سياقاتها وكانت النتيجة التي توصل إليها بهذا الشأن خاصة بالمقامة الحرزية، ولا يمكن تعميمها على مقامات الهمذاني، مما يقلل من قيمة تلك النتيجة.

أقول هذا الكلام لأن المقامة التي خصها السالمي بالمقاربة حوت الراوية والبطل فأدت إلى النتيجة التي توصل إليها، ولكن لو علم أن البديع في كثير من مقاماته يستغني عن البطل ويقوم الراوية عيسى بن هشام بدوره مع اضطلاعه بأدوار أخرى لتغيرت نظرته، فقد غاب الإسكندري تماما عن كثير من المقامات، فهو لم يظهر في المقامة (البغدادية) و (البشرية) و (الغيلانية) و(الصيمرية).

وتغيب مقامات الحريري في أعمال الندوة فلا تحظى على أهميتها بأية مقاربة، وأحسب أن الأحكام التي أصدرت على مقامات البديع ستختلف تماما حين مقاربة المقامة الحريرية من زاوية المتكلم؛ ذلك أن أبا زيد السروجي كان دائم الحضور في المقامات بخلاف الإسكندري في مقامات الهمذاني، وقد يتحول أحيانا إلى راوية من الدرجة الثانية.

ولعل أكبر مشكلة واجهت مقاربة المقامة من زاوية المتكلم إعلان المشرفين على الندوة عن أن القائل في الأعمال المقامية كائن متخيل، وأن المقامة لون من السرد التخييلي، وذلك حكم لا يصدق إلا على مقامات البديع والحريري، وهنا يبدو نقص الاستقراء مؤديا إلى أحكام غير صحيحة، فالسيوطي لم يعتمد التخييل في كل مقاماته، بل كانت الحقيقة تلف بنيته السردية المقامية، ويمكن تأمل ذلك في مقامة (الدوران الفلكي على ابن الكركي) و(قمع المعارض في نصرة ابن الفارض) و (ساحب سيف على صاحب حيف) و (الكاوي على تاريخ السخاوي) وغير السيوطي كثير ممن تجافى عن التخييل كابن الوردي في مقامة (النبا عن الوبا) والصفدي في مقامة (رشف الرحيق في وصف الحريق).

بل إني تتبعت في كتابي (المقامات المشرقية 550-1200ه) شخصية الراوي فوجدت أن أكثر مقاميي الفترة المدروسة قد تخلصوا من الراوية التقليدي، وأضحى المؤلف هو الذي يقوم برواية مقاماته، نجد ذلك واضحا عند الخوارزمي، وابن الزبير الغساني، وابن الجوزي، وعبدالمحسن التنوخي، ومحيي الدين بن قرناص، وتاج الدين الصرخدي، شرف بن أسد المصري، وابن نباتة، والزرندي، وعبدالله النجري، والشهاب الحجازي، والحسين بن أبي الرجال، وعبدالغني النابلسي، ومحمد بن إسماعيل الأمير، ومحمود الكوازي، وأحمد الكريدي. ومن المقاميين من زاوج بن الشكلين فسمى له راوية تارة، ونصب نفسه راوية تارة أخرى، ومن هؤلاء الحصكفي، وابن حموية الجويني، والشاب الظريف، وعبدالباقي بن عبدالمجيد، والقلقشندي، واللقيمي.

على أن هناك من المقاميين من التزم بشخصية الراوي ولكنه غير محدد الاسم، ويتغير من مقامة إلى أخرى أمثال : ابن ريان، وعبدالرحيم العباسي، والقواس الحلبي. ومن المقاميين من كان الراوي لديه مقدودا من المادة المقامية، بحيث يوظف اسم الراوية في خدمة موضوع المقامة، فيشعرك اسمه بما تتحدث عنه، نجد ذلك عند تاج الدين اليماني عندما سمى راوي مقامته زارد بن لاقم؛ لأنها تدور حول التطفل، ولدى الصفدي حينما أطلق على راوية مقامته اسم شعلة بن أبي لهب؛ لأنها تصف حريق دمشق، وعند القلقشندي لما سمى راوي مقامته الناثر بن نظام؛ لأنها تعالج صناعة الكتابة.

ولعل أهم ما يؤخذ على كتاب الندوة عدم خضوعه لخطة تنظمه، فلو عمد المشرفان عليها قبل الإعلان عن قيامها برسم مخطط يحدد أجناس المقاربة وزواياها، وجعلت تلك الأجناس في فصول تنتظم مجموعة من المباحث، وأسند إلى كل متخصص كتابة مبحث من مباحث هذا المشروع لغدا العمل أكثر إحكاما.

وأحسب أن وجهات النظر التي قدمتُها عن هذا المشروع لا تغض من قيمته، فه و إضافة علمية بكل المقاييس لعنصر المتكلم في السرد العربي القديم، وتحية إكبار وإجلال للقائمين عليه وللمشاركين فيه.

وفي ختام هذا المقال أدرك أن كثيرا مما ينبغي قوله حول كتاب هذه الندوة الثرية لم يقل، وأن حديثي أقرب إلى الومضات الفلاشية، ويعود السبب إلى ضيق المساحة من جهة، ولأنني لست من هواة (1-3) (2-3) (3-3) من جهة أخرى، فقارئ اليوم لا يتحمل تقطيع أوصال القضية في سلسلة مقالات، بل إنه يكاد ينوء بقراءة أفكار مكتملة ومجتمعة في مقال واحد طالبا الاختصار، فكيف إذا شتتت؟ ومن هنا فإني أرفع في كل مقالاتي شعار (أفصح وأوجز) والسلام.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة