Culture Magazine Thursday  08/11/2012 G Issue 384
قراءات
الخميس 23 ,ذو الحجة 1433   العدد  384
 
هذا الكتاب
ديانة الضمير الفردي
لمياء السويلم

 

«ولئن كان من حق البعض أن يلاحظ اليوم أن كل من هبّ ودبّ أصبح يزعم أنه مختصٌ في الإسلام، فإنه من الجدير أيضًا الإعلان صراحة أنه لم يعد ممكنًا أن نترك الشأن الديني وهو الظَّاهِرَة الثقافيَّة الأكثر خطرًا في حياة مجتمعاتنا بأيدي الفئات الأضعف ثقافة ومعرفة وتفكيرًا في هذه المجتمعات» يطمح الدكتور محمد الحداد صاحب كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة للأديان أن يكون قد أضاف للقارئ والمكتبة مبحثًا علميًّا يساعد الإنسان العربي في فهم الشأن الديني في مجتمعاته من خلال كتابه هذا (ديانة الضمير الفردي ومصير الإسلام في العصر الحديث) والصادر عن دار المدار الإسلامي.

يمهد الحداد لكتابه بأن محور البحث الرئيس فيه هو الإصلاح الديني، مؤكدًا على ضرورة التمييز بوضوح بين ثلاث مسائل هي: المقاربة العلميَّة للظاهرة الدينيَّة والاجتهاد والإصلاح الديني، فالمقاربة العملية تغيّر التصورات السائدة وتفتح المجال لتصورات جديدة أكثر موضوعية، لكنَّها ليست اجتهادًا دينيًّا ولا تجربة روحانية، لأن الاجتهاد هو اختيار المجموعة المنتمية لهذا الدين، بينما الظَّاهِرَة الدينيَّة فهي تخضع لمبدأ الاختصاص العلمي دون الانتماء الديني، فالاجتهاد مرتبطٌ بالفتوى لا بالطَّرح الفكري وهما خطابان مختلفان.

«أما الإصلاح الديني فهو في صياغته الأكثر شمولية: إعادة ترتيب جماعية للعلاقة بين المتخيل الديني والمتخيل الاجتماعي في الخبرات المعيشية لمجموعات بشرية ذات تنظيم اجتماعي وثقافي معقد. فلا تطرح قضية الإصلاح في المجتمعات التي لم تشهد انفصالاً واضحًا بين ثقافة المشافهة وثقافة المكتوب، ولا في المجتمعات التي لم يتميز فيها شكلٌ واضحٌ للدولة مستقل نسبيًّا عن التنظيمات الاجتماعيَّة الأولية مثل الأسرة والقبيلة.

ذلك لأن المجتمعات التي لا تتبلور فيها ظاهرتا الكتابة والدَّوْلة لا تعرف مفهوم الدين مجردًا عن حياتها الاجتماعيَّة العادية».

من هنا ينبه أستاذ الحضارة والأديان المقارنة في الجامعة التونسية القارئ إلى أن «تنامي الطلب على الدين لا يزيد من التدين بل يقلصه» ويؤكد أن مقولة الإصلاح ارتبطت بطموح تاريخي تطلعت إليه المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة، وليس وصفًا لشيء قد وقع، مُذكِّرا أن خطورة مقولة الإصلاح أنها أصبحت ذات تأثير في الأذهان في ذات الفترة التاريخية التي تقلَّصت فيها، وأن الوعي الديني لم يترسَّخ إلا في مرحلة كانت القضايا الاجتماعيَّة قد تعلمنت فيها وتخلصت من أي لغة دينية.

يُحفِّز الحداد الباحثين من مختلف الاختصاصات إلى المساهمة في دراسة وتحليل مجموعة حقائق عبر التاريخ، أولها أن الدين لم يتحوَّل من شعور إلى معرفة إلا باقتباس المعارف الكونية مثل الفلسفة القديمة، والثانية منها أن الثقافة لا تقتصر على المكتوب، بل تشمل كل مجالات الإنتاج الرمزي للإنسانيَّة، وأن الأديان هي الإنتاج الأعمق تعبيرًا عن البعد الرمزي في الإِنسان، ثالثًا: إن الدين فاعلٌ من الفواعل التاريخية والاجتماعيَّة، يصنع الحدث كما تصنَّع فيه الأحداث، فهو أثرٌ ومُؤثِّرٌ ودافعٌ ونتيجة، الرابع من الحقائق هو أنه لا يوجد دين ابتدع العقيدة أو المحرم أو الشعيرة، يعني أن الظَّاهِرَة الدينيَّة هي واحدة تشترك حولها البشرية، الخامس أن القداسة تخضح لمبدأ التحوَّل دون مبدأ التطوّر أو التعاقب، سادسًا أن المقاربة المعقلنة للأديان بعد ضروري في فهم الحضارات الكبرى التي امتزج تاريخها بتاريخ أديانها «لقد حان الوقت للخروج من خطة التَّعامل مع الموضوع الديني بآليات ثقافة الستر، وللمواجهة الشجاعة لوضعنا الثقافي الذي تصح عليه عبارة هيغل بأنه وضع - الشعوب ذات الوعي الغامض بتاريخها-».

ينقسم البحث إلى أربعة فصول، الأول والثاني تحت عنوان العلمانية والإصلاح الديني، والثالث والرابع بعنوان الذاكرة والكتابة والإصلاح الديني، يتساءل أستاذ الحضارة «كيف يمكن أن تخصص عشرات الآيات من القرآن للحديث عن هذه الأديان ولا تقوم في الثقافة الإسلاميَّة المعاصرة مباحث للأديان المقارنة» منبهًا إلى أن نشأة الدين الإسلامي تقترب من نشأة الأديان السماوية الأخرى ما يفترض تقاربًا أيضًا في المصير، يفسر الكاتب السبب الذي يمنع الأصوليين من استعادة التواصل الطّبيعي بين الإسلام ومجموع الأديان التوحيدية هو الوهم الراسخ لديهم بأن الغرب قد خرج من عصر الدين، فإنّ كان المقصود بهذا الخروج هو التحرر من السلطة المباشرة لرجال الدين في المجتمع أي في سلوك الأفراد وأفكارهم وسير المؤسسات السياسيَّة والاجتماعيَّة والتعليميَّة، فإنَّ هذا الخروج من العصر الديني هو قدر كل المجتمعات دون استثناء.

يجدر بالقارئ أن يدرك المفهوم الذي يقصده الدكتور الحداد بالإصلاح الديني كما شرحه الدكتور في أحد حوارته الصحفية، بأن الإصلاح الديني لا يعني إصلاح الأديان، وإنما إصلاح الفكر الديني، تصورات النَّاس عن الدين، كيفية تمثِّلهم له، ونوعية الوظائف التي يشغلها الدين في المجتمع وهي حتمًا تتغيَّر على مرِّ العصور، الإصلاح لا يعني تغيير الدين إذن، يمكن للقارئ أن يتصور المسجد الذي كان مكان عبادة وتعليم وجمع الزكاة واجتماع الجيوش لا يزال إلى اليوم يقوم بذات المهمة! المسألة ليست إلغاء للدين، إنما إحياء للدولة المدنية ذات المؤسسات، مؤسسة دينية، ومؤسسة تعليميَّة، كل مؤسسة لها شرعيتها التي تسنها الدَّوْلة.

«الدَّوْلة الحديثة هي التي تنجح في توفير إطار سلمي لعملية اقتسام المصالح بين القوى الاجتماعيَّة، فتتجنب الاستبداد والفوضى، وهما الشكلان الأعظم للعنف، لا مانع حينئذ أن يكون الدين عاملاً إيجابيًّا في المجتمع إذا كان من جملة وظائفه، أن يكون سلطة أخلاقيَّة مراقبة للدولة تسهم في منعها من التسلط.

لكن السلطة المراقبة غير مشروع الدَّوْلة المضادة، ولا يتحقق ذلك المقترح إلا إذا تجنب الدين أن يكون مشروع دولة، وإلا أصبح بدوره ذريعة للتسلّط وآلة للاستبداد أو تحوَّل طلبه الكمال إلى ذريعة لإحلال الفوضى.

ثم إن احتكار طائفة مُعيَّنة الحديث باسم الله والحقيقة هو أعلى أشكال العنف المسلّط على العقول والمانع حق التفكير الفردي والتعبير الحر والمواطنة البناءة.

ربما يكون عسيرًا على الفكر الإصلاحي أن يقبل العلمانية بعد أن اختلطت عنده بالسياسة اللا دينية، لكنَّه مهيأ أن يقبل مبدأ الحضور الأدنى للدين، أي أن يدافع عن قيم أخلاقيَّة عامة دون الأحكام الفقهية التفصيلية، أن ينشد دولة الأخلاق لا نظام رجال الدين، أن يسهم في رسم المشتركات والمبادئ الجامعة لا أن يكون طرفًا في الإدارة التقنيَّة للمجتمع والمنافسات المباشرة للقوى الاجتماعيَّة من أجل تحصيل المصالح.

فالحضور الاجتماعي الأدنى يفرض شكلاً من الفصل بين الدين والسياسة، ليس بمعنى اللا دينية، بل بمعنى التمييز بين وظيفتين مختلفتين.

إن الفصل قد يعني التمييز أو القطع، وهو بالمعنى الأول أكثر ملاءمة للوضعين العربي الإسلامي».

lamia.swm@gmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة